حمل المصحف

Translate ترجم الي اي لغة تختارها داد7.

الخميس، 9 فبراير 2017

16 من قوله تعالي(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن..)الي(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ..)

يأتي ان شاء الله 115
115
(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ( 185 ) 

يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور ، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه ، وكما اختصه بذلك ، قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء .
قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عمران أبو العوام ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة يعني ابن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان . وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان
وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وفيه : أن الزبور أنزل لثنتي عشرة [ ليلة ] خلت من رمضان ، والإنجيل لثماني عشرة ، والباقي كما تقدم . رواه ابن مردويه .
أما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة ، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، وكان ذلك في شهر رمضان ، في ليلة القدر منه ، كما قال تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [ القدر : 1 ] . وقال : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) [ الدخان : 3 ] ، ثم نزل بعد مفرقا بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم . هكذا روي من غير وجه ، عن ابن عباس ، كما قال إسرائيل ، عن السدي ، عن محمد بن أبي المجالد عن مقسم ، عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود ، فقال : وقع في قلبي الشك من قول الله تعالى : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) وقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) وقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) وقد أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم ، وصفر ، وشهر ربيع . فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان ، في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام . رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه ، وهذا لفظه . [ ص: 502 ]
وفي رواية سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العزة ، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس .
وفي رواية عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة ، وكان الله يحدث لنبيه ما يشاء ، ولا يجيء المشركون بمثل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه ، وذلك قوله : ( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) [ الفرقان : 32 ، 33 ] .
[ قال فخر الدين : ويحتمل أنه كان ينزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس إلى إنزاله إلى مثله من اللوح إلى سماء الدنيا ، وتوقف ، هل هذا أولى أو الأول ؟ وهذا الذي جعله احتمالا نقله القرطبي عن مقاتل بن حيان ، وحكى الإجماع على أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وحكى الرازي عن سفيان بن عيينة وغيره أن المراد بقوله : ( الذي أنزل فيه القرآن ) أي : في فضله أو وجوب صومه ، وهذا غريب جدا ] .
وقوله : ( هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه ) وبينات ) أي : ودلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال ، والرشد المخالف للغي ، ومفرقا بين الحق والباطل ، والحلال ، والحرام .
وقد روي عن بعض السلف أنه كره أن يقال : إلا " شهر رمضان " ولا يقال : " رمضان " ; قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن بكار بن الريان ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، وسعيد هو المقبري عن أبي هريرة ، قال : لا تقولوا : رمضان ، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا : شهر رمضان .
قال ابن أبي حاتم : وقد روي عن مجاهد ، ومحمد بن كعب نحو ذلك ، ورخص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت .
قلت : أبو معشر هو نجيح بن عبد الرحمن المدني إمام [ في ] المغازي ، والسير ، ولكن فيه ضعف ، وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا ، عن أبي هريرة ، وقد أنكره عليه الحافظ ابن عدي وهو جدير بالإنكار فإنه متروك ، وقد وهم في رفع هذا الحديث ، وقد انتصر البخاري ، رحمه الله ، في كتابه لهذا فقال : " باب يقال رمضان " وساق أحاديث في ذلك منها : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " ونحو ذلك[ ص: 503 ] وقوله : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر أي كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان ، وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة . ونسخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحا مقيما أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم ، كما تقدم بيانه . ولما حتم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار ، بشرط القضاء فقال : ( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) معناه : ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه ، أو يؤذيه أو كان على سفر أي في حال سفر فله أن يفطر ، فإذا أفطر فعليه بعدة ما أفطره في السفر من الأيام ; ولهذا قال : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) أي : إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر ، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح ، تيسيرا عليكم ورحمة بكم .
وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية :
إحداها : أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر في أثنائه ، فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه ، لقوله : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر ، وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المحلى ، عن جماعة من الصحابة والتابعين . وفيما حكاه عنهم نظر ، والله أعلم . فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح ، فسار حتى بلغ الكديد ، ثم أفطر ، وأمر الناس بالفطر . أخرجه صاحبا الصحيح .
الثانية : ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر ، لقوله : ( فعدة من أيام أخر ) والصحيح قول الجمهور ، أن الأمر في ذلك على التخيير ، وليس بحتم ; لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان . قال : " فمنا الصائم ومنا المفطر ، فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم " . فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم الصيام ، بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائما ، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء [ قال ] خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في شهر رمضان ] في حر شديد ، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه [ من شدة الحر ] وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة .
الثالثة : قالت طائفة منهم الشافعي : الصيام في السفر أفضل من الإفطار ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، وقالت طائفة : بل الإفطار أفضل ، أخذا بالرخصة ، ولما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه سئل عن الصوم في السفر ، فقال : " من أفطر فحسن ، ومن صام فلا جناح عليه " . وقال في حديث آخر : [ ص: 504 ]
"عليكم برخصة الله التي رخص لكم " وقالت طائفة : هما سواء لحديث عائشة : أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال : يا رسول الله ، إني كثير الصيام ، أفأصوم في السفر ؟ فقال : " إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر " . وهو في الصحيحين . وقيل : إن شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد ظلل عليه ، فقال : " ما هذا ؟ " قالوا : صائم ، فقال : " ليس من البر الصيام في السفر " . أخرجاه . فأما إن رغب عن السنة ، ورأى أن الفطر مكروه إليه ، فهذا يتعين عليه الإفطار ، ويحرم عليه الصيام ، والحالة هذه ، لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره ، عن ابن عمر وجابر ، وغيرهما : من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة .
الرابعة : القضاء ، هل يجب متتابعا أو يجوز فيه التفريق ؟ فيه قولان :
 أحد هما : أنه يجب التتابع ، لأن القضاء يحكي الأداء .
 والثاني   : لا يجب التتابع ، بل إن شاء فرق ، وإن شاء تابع . وهذا قول جمهور السلف والخلف ، وعليه ثبتت الدلائل ; لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر ، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدة ما أفطر . ولهذا قال تعالى : ( فعدة من أيام أخر ) ثم قال : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا ابن هلال ، عن حميد بن هلال العدوي ، عن أبي قتادة ، عن الأعرابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره
وقال أحمد أيضا : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عاصم بن هلال ، حدثنا غاضرة بن عروة الفقيمي ، حدثني أبي عروة ، قال : كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج رجلا يقطر رأسه من وضوء أو غسل ، فصلى ، فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه : علينا حرج في كذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن دين الله في يسر " ثلاثا يقولها .
ورواه الإمام أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث مسلم بن إبراهيم ، عن عاصم بن هلال ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة قال : حدثنا أبو التياح ، سمعت أنس بن مالك يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يسروا ، ولا تعسروا ، وسكنوا ولا تنفروا " . أخرجاه في الصحيحين . وفي الصحيحين أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن : " بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تختلفا " . وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 505 ] قال : " بعثت بالحنيفية السمحة " .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره : حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا يحيى ابن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا أبو مسعود الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ، عن محجن بن الأدرع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي فتراءاه ببصره ساعة ، فقال : " أتراه يصلي صادقا ؟ " قال : قلت : يا رسول الله ، هذا أكثر أهل المدينة صلاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسمعه فتهلكه " . وقال : " إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ، ولم يرد بهم العسر " .
ومعنى قوله : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ) أي : إنما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر ، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم .
وقوله : ( ولتكبروا الله على ما هداكم ) أي : ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم ، كما قال : ( فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ) [ البقرة : 200 ] وقال : [ ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ) ] [ النساء : 103 ] ، ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) [ الجمعة : 10 ] وقال : ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ) [ ق : 39 ، 40 ] ; ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح ، والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات .
وقال ابن عباس : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير ; ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية : ( ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ) حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر ; لظاهر الأمر في قوله ( ولتكبروا الله على ما هداكم ) وفي مقابلته مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يشرع التكبير في عيد الفطر . والباقون على استحبابه ، على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم .
وقوله : ( ولعلكم تشكرون ) أي : إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه ، وترك محارمه ، وحفظ حدوده ، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك .
116
( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ( 186 ) 

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أخبرنا جرير ، عن عبدة بن أبي برزة السجستاني عن الصلب بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري ، عن أبيه ، عن جده ، أن [ ص: 506 ] أعرابيا قال : يا رسول الله ، أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) .
ورواه ابن مردويه ، وأبو الشيخ الأصبهاني ، من حديث محمد بن أبي حميد ، عن جرير ، به . وقال عبد الرزاق : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ النبي صلى الله عليه وسلم ] : أين ربنا ؟ فأنزل الله عز وجل : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) الآية .
وقال ابن جريج عن عطاء : أنه بلغه لما نزلت : ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) [ غافر : 60 ] قال الناس : لو نعلم أي ساعة ندعو ؟ فنزلت : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان )
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، حدثنا خالد الحذاء ، عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فجعلنا لا نصعد شرفا ، ولا نعلو شرفا ، ولا نهبط واديا إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير . قال : فدنا منا فقال : " يا أيها الناس ، اربعوا على أنفسكم ; فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنما تدعون سميعا بصيرا ، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته . يا عبد الله بن قيس ، ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله " .
أخرجاه في الصحيحين ، وبقية الجماعة من حديث أبي عثمان النهدي ، واسمه عبد الرحمن بن مل ، عنه ، بنحوه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا شعبة ، حدثنا قتادة ، عن أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا دعاني " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله ، عن كريمة بنت الخشخاش المزنية ، قالت : حدثنا أبو هريرة : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله : أنا مع عبدي ما ذكرني ، وتحركت بي شفتاه " .
قلت : وهذا كقوله تعالى : ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) [ النحل : 128 ] ، وكقوله لموسى وهارون ، عليهما السلام : ( إنني معكما أسمع وأرى ) [ طه : 46 ] . والمراد من هذا : أنه تعالى لا يخيب دعاء داع ، ولا يشغله عنه شيء ، بل هو سميع الدعاء . وفيه ترغيب في الدعاء ، وأنه لا يضيع لديه تعالى ، كما قال الإمام أحمد :[ ص: 507 ]
حدثنا يزيد ، حدثنا رجل أنه سمع أبا عثمان هو النهدي يحدث عن سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله تعالى ليستحيي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردهما خائبتين " .
قال يزيد : سموا لي هذا الرجل ، فقالوا : جعفر بن ميمون .
وقد رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من حديث جعفر بن ميمون ، صاحب الأنماط ، به . وقال الترمذي : حسن غريب . ورواه بعضهم ، ولم يرفعه .
وقال الشيخ الحافظ أبو الحجاج المزي ، رحمه الله ، في أطرافه : وتابعه أبو همام محمد بن الزبرقان ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، به .
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو عامر ، حدثنا علي بن دؤاد أبو المتوكل الناجي ، عن أبي سعيد : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم ، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها " قالوا : إذا نكثر . قال : " الله أكثر " .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن منصور الكوسج ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا ابن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن جبير بن نفير ، أن عبادة بن الصامت حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله ، عز وجل ، بدعوة إلا آتاه الله إياها ، أو كف عنه من السوء مثلها ، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم " .
ورواه الترمذي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن محمد بن يوسف الفريابي ، عن ابن ثوبان وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان به . وقال : حسن صحيح غريب من هذا الوجه .
وقال الإمام مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي عبيد مولى ابن أزهر عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : دعوت فلم يستجب لي " .
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك ، به . وهذا لفظ البخاري ، رحمه الله ، وأثابه الجنة .
وقال مسلم أيضا : حدثني أبو الطاهر ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني معاوية بن صالح ، عن ربيعة بن يزيد ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل " . قيل : يا رسول الله ، ما الاستعجال ؟ قال : " يقول : قد [ص: 508 ] دعوت ، وقد دعوت ، فلم أر يستجاب لي ، فيستحسر عند ذلك ، ويترك الدعاء " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا ابن هلال ، عن قتادة ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل " . قالوا : وكيف يستعجل ؟ قال : " يقول : قد دعوت ربي فلم يستجب لي " .
وقال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر : أن يزيد بن عبد الله بن قسيط حدثه ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : ما من عبد مؤمن يدعو الله بدعوة فتذهب ، حتى تعجل له في الدنيا أو تدخر له في الآخرة ، إذا لم يعجل أو يقنط . قال عروة : قلت : يا أماه كيف عجلته وقنوطه ؟ قالت : يقول : سألت فلم أعط ، ودعوت فلم أجب .
قال ابن قسيط : وسمعت سعيد بن المسيب يقول كقول عائشة سواء .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا بكر بن عمرو ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " القلوب أوعية ، وبعضها أوعى من بعض ، فإذا سألتم الله أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة ، فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل " .
وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن إسحاق بن أيوب ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبي بن نافع بن معد يكرب ببغداد ، حدثني أبي بن نافع ، حدثني أبي بن نافع بن معد يكرب ، قال : كنت أنا وعائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الآية : ( أجيب دعوة الداع إذا دعان ) قال : " يا رب ، مسألة عائشة " . فهبط جبريل فقال : الله يقرؤك السلام ، هذا عبدي الصالح بالنية الصادقة ، وقلبه نقي يقول : يا رب ، فأقول : لبيك . فأقضي حاجته . هذا حديث غريب من هذا الوجه .

وروى ابن مردويه من حديث الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : حدثني جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) الآية . فقال رسول [ ص: 509 ] الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم أمرت بالدعاء ، وتوكلت بالإجابة ، لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، لبيك إن الحمد والنعمة لك ، والملك لا شريك لك ، أشهد أنك فرد أحد صمد لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوا أحد ، وأشهد أن وعدك حق ، ولقاءك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والساعة آتية لا ريب فيها ، وأنت تبعث من في القبور " .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا الحسن بن يحيى الأرزي ومحمد بن يحيى القطعي قالا : حدثنا الحجاج بن منهال ، حدثنا صالح المري ، عن الحسن ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله تعالى : يا ابن آدم ، واحدة لك وواحدة لي ، وواحدة فيما بيني وبينك ; فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا ، وأما التي لك فما عملت من شيء وفيتكه وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلي الإجابة " .
وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء ، متخللة بين أحكام الصيام ، إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة ، بل وعند كل فطر،كما رواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده :
حدثنا أبو محمد المليكي ، عن عمرو هو ابن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عمرو ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة " . فكان عبد الله بن عمرو إذ أفطر دعا أهله ، وولده ودعا .
وقال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في سننه : حدثنا هشام بن عمار ، أخبرنا الوليد بن مسلم ، عن إسحاق بن عبيد الله المدني ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد " . قال عبد الله بن أبي مليكة : سمعت عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي .
وفي مسند الإمام أحمد ، وسنن الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة ، وتفتح لها أبواب السماء ، ويقول : بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين " .
117
( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 187 )
[ ص: 510 ]
هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ ، وَرَفْعٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّهُ كَانَ إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُهُمْ إِنَّمَا يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ إِلَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ أَوْ يَنَامُ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَمَتَى نَامَ أَوْ صَلَّى الْعِشَاءَ حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ . فَوَجَدُوا مِنْ ذَلِكَ مَشَقَّةً كَبِيرَةً . وَالرَّفَثُ هُنَا هُوَ : الْجِمَاعُ . قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَطَاوُسٌ ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ .
وَقَوْلُهُ : ( هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ : يَعْنِي هُنَّ سَكَنٌ لَكُمْ ، وَأَنْتُمْ سَكَنٌ لَهُنَّ .
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ : هُنَّ لِحَافٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِحَافٌ لَهُنَّ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُخَالِطُ الْآخَرَ وَيُمَاسُّهُ وَيُضَاجِعُهُ ، فَنَاسَبَ أَنْ يُرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْمُجَامَعَةِ فِي لَيْلِ رَمَضَانَ ، لِئَلَّا يَشُقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، وَيُحْرَجُوا ، قَالَ الشَّاعِرُ
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا تَدَاعَتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا
وَكَانَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ الطَّوِيلِ ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ ، لَمْ يَأْكُلْ إِلَى مِثْلَهَا ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا ، وَكَانَ يَوْمُهُ ذَاكَ يَعْمَلُ فِي أَرْضِهِ ، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارَ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ : هَلْ عِنْدَكِ طَعَامٌ ؟ قَالَتْ : لَا وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ . فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ فَنَامَ ، وَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ ، فَلَمَّا رَأَتْهُ نَائِمًا قَالَتْ : خَيْبَةٌ لَكَ ! أَنِمْتَ ؟ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ) إِلَى قَوْلِهِ : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا .
وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ هَاهُنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ : سَمِعْتُ الْبَرَاءَ قَالَ : لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ رَمَضَانَ كَانُوا لَا [ ص: 511 ] يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ ، رَمَضَانَ كُلَّهُ ، وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : ( عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ) .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِذَا صَلَّوُا الْعِشَاءَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ النِّسَاءُ وَالطَّعَامُ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْقَابِلَةِ ، ثُمَّ إِنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَصَابُوا مِنَ النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : ( عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ) وَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ ، عَنْ كُرَيْبٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : إِنَّ النَّاسَ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِي الصَّوْمِ مَا نَزَلَ فِيهِمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ ، وَيَحِلُّ لَهُمْ شَأْنُ النِّسَاءِ ، فَإِذَا نَامَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَطْعَمْ وَلَمْ يَشْرَبْ وَلَا يَأْتِي أَهْلَهُ حَتَّى يُفْطِرَ مِنَ الْقَابِلَةِ ، فَبَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَعْدَمَا نَامَ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَقَعَ عَلَى أَهْلِهِ ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَشْكُو إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ الذِي صَنَعْتُ . قَالَ : " وَمَاذَا صَنَعْتَ ؟ " قَالَ : إِنِّي سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ، فَوَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي بَعْدَ مَا نِمْتُ وَأَنَا أُرِيدُ الصَّوْمَ . فَزَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَا كُنْتَ خَلِيقًا أَنْ تَفْعَلَ " . فَنَزَلَ الْكِتَابُ : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ )
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ) إِلَى قَوْلِهِ : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) قَالَ : كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ هَذِهِ الْآيَةُ إِذَا صَلَّوُا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ حَتَّى يُفْطِرُوا ، وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَهْلَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ، وَأَنَّ صِرْمَةَ بْنَ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّ غَلَبَتْهُ عَيْنُهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ ، فَنَامَ وَلَمْ يَشْبَعْ مِنَ الطَّعَامِ ، وَلَمْ يَسْتَيْقِظْ حَتَّى صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ ، فَقَامَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ) يَعْنِي بِالرَّفَثِ : مُجَامَعَةُ النِّسَاءِ ( هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ ) يَعْنِي : تُجَامِعُونَ النِّسَاءَ ، وَتَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ بَعْدَ الْعِشَاءِ ( فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ) يَعْنِي : جَامِعُوهُنَّ ( وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ) يَعْنِي : الْوَلَدُ ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) فَكَانَ ذَلِكَ عَفْوًا مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةً .
وَقَالَ هُشَيْمٌ ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، قَالَ : قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي أَرَدْتُ أَهْلِي الْبَارِحَةَ عَلَى مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ فَقَالَتْ : إِنَّهَا قَدْ نَامَتْ ، فَظَنَنْتُهَا تَعْتَلُّ ، فَوَاقَعْتُهَا ، فَنَزَلَ فِي عُمَرَ : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ )[ ص: 512 ]
وَهَكَذَا رَوَاهُ شُعْبَةُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، بِهِ .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى ، حَدَّثَنَا سَوَيْدٌ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ جُبَيْرٍ مَوْلَى بَنِي سَلِمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ النَّاسُ فِي رَمَضَانَ إِذَا صَامَ الرَّجُلُ فَأَمْسَى فَنَامَ ، حُرِّمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ حَتَّى يُفْطِرَ مِنَ الْغَدِ . فَرَجَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ سَمُرَ عِنْدَهُ ، فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ نَامَتْ ، فَأَرَادَهَا ، فَقَالَتْ : إِنِّي قَدْ نِمْتُ ! فَقَالَ : مَا نِمْتِ ! ثُمَّ وَقَعَ بِهَا . وَصَنَعَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ مِثْلَ ذَلِكَ . فَغَدَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : ( عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ) [ الْآيَةَ ] .
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَالسُّدِّيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَغَيْرِهِمْ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمَنْ صَنَعَ كَمَا صَنَعَ ، وَفِي صِرْمَةَ بْنِ قَيْسٍ ; فَأَبَاحَ الْجِمَاعَ وَالطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ رَحْمَةً وَرُخْصَةً وَرِفْقًا .
وَقَوْلُهُ : ( وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ ، وَشُرَيْحٌ الْقَاضِي ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعَطَاءٌ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتْبَةَ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَقَتَادَةُ ، وَغَيْرُهُمْ : يَعْنِي الْوَلَدَ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ : ( وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ) يَعْنِي : الْجِمَاعُ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ النُّكْرِيُّ ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ :(وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ) قَالَ : لَيْلَةَ الْقَدْرِ . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، وَابْنُ جَرِيرٍ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ : قَالَ قَتَادَةُ : وَابْتَغَوُا الرُّخْصَةَ التِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ . وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ : ( وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ) يَقُولُ : مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا : أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ : كَيْفَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ : ( وَابْتَغُوا ) أَوْ : " اتَّبِعُوا " ؟ قَالَ : أَيَّتُهُمَا شِئْتَ : عَلَيْكَ بِالْقِرَاءَةِ الْأُولَى .
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) أَبَاحَ تَعَالَى الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ ، مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِبَاحَةِ الْجِمَاعِ فِي أَيِّ اللَّيْلِ شَاءَ الصَّائِمُ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ ضِيَاءُ الصَّبَاحِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ، وَرَفَعَ اللَّبْسَ بِقَوْلِهِ : ( مِنَ الْفَجْرِ ) كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي [ ص: 513 ] مَرْيَمَ ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، قَالَ : أُنْزِلَتْ : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ) وَلَمْ يُنْزَلْ ( مِنَ الْفَجْرِ ) وَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ ، رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ ، فَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتَهُمَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ : ( مِنَ الْفَجْرِ ) فَعَلِمُوا أَنَّمَا يَعْنِي : اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ) عَمَدْتُ إِلَى عِقَالَيْنِ ، أَحَدُهُمَا أَسْوَدُ وَالْآخَرُ أَبْيَضُ ، قَالَ : فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي ، قَالَ : فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمَا فَلَا تَبَيَّنَ لِي الْأَسْوَدُ مِنَ الْأَبْيَضِ ، وَلَا الْأَبْيَضُ مِنَ الْأَسْوَدِ ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ . فَقَالَ : " إِنَّ وِسَادَكَ إِذًا لَعَرِيضٌ ، إِنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ " .
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ، عَنْ عَدِيٍّ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ : " إِنَّ وِسَادَكَ إِذًا لَعَرِيضٌ " أَيْ : إِنْ كَانَ يَسَعُ لِوَضْعِ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ الْمُرَادَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَحْتَهَا ، فَإِنَّهُمَا بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ . فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِعَرْضِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ .
وَهَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مُفَسَّرًا بِهَذَا : أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ ، عَنْ حُصَيْنٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَدِيٍّ قَالَ : أَخَذَ عَدِيٌّ عِقَالَا أَبْيَضَ وَعِقَالَا أَسْوَدَ ، حَتَّى كَانَ بَعْضُ اللَّيْلِ نَظَرَ فَلَمْ يَتَبَيَّنَا . فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، جَعَلْتُ تَحْتَ وِسَادَتِي . قَالَ : " إِنَّ وِسَادَكَ إِذًا لَعَرِيضٌ ، إِنْ كَانَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ تَحْتَ وِسَادَتِكَ " .
وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ : إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا . فَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالْبَلَادَةِ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ . بَلْ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ وِسَادُهُ عَرِيضًا فَقَفَاهُ أَيْضًا عَرِيضٌ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَيُفَسِّرُهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا :
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَنْ مُطَرِّفٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ، أَهُمَا الْخَيْطَانِ ؟ قَالَ : " إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا إِنْ أَبْصَرْتَ الْخَيْطَيْنِ " . ثُمَّ قَالَ : " لَا بَلْ هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ " .
وَفِي إِبَاحَتِهِ تَعَالَى جَوَازَ الْأَكْلِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ السُّحُورِ ; لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ ، وَالْأَخْذُ بِهَا مَحْبُوبٌ ; وَلِهَذَا وَرَدَتِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَثِّ عَلَى السُّحُورِ [ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ وَالْأَخْذِ بِهَا ] فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةٌ " . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ [ ص: 514 ] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ فَصْلَ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ " .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى هُوَ ابْنُ الطَّبَّاعِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ ; فَلَا تَدَعُوهُ ، وَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَجْرَعُ جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ ، فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ " .
وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّرْغِيبِ فِي السُّحُورِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ حَتَّى وَلَوْ بِجُرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ ، تَشَبُّهًا بِالْآكِلِينَ . وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ إِلَى قَرِيبِ انْفِجَارِ الْفَجْرِ ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ : تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ . قَالَ أَنَسٌ : قُلْتُ لِزَيْدٍ : كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسُّحُورِ ؟ قَالَ : قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ ، عَنْ سَالِمِ بْنِ غَيْلَانَ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الْحِمْصِيِّ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْإِفْطَارَ وَأَخَّرُوا السُّحُورَ " . وَقَدْ وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ الْغَدَاءَ الْمُبَارَكَ ، وَفِي الْحَدِيثِ الذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ : تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ النَّهَارُ إِلَّا أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ . وَهُوَ حَدِيثٌ تَفَرَّدَ بِهِ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ ، قَالَهُ النَّسَائِيُّ ، وَحَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ قُرْبُ النَّهَارِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)[ الطَّلَاقِ : 2 ] أَيْ : قَارَبْنَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ ، فَإِمَّا إِمْسَاكٌ أَوْ تَرْكٌ لِلْفِرَاقِ . وَهَذَا الذِي قَالَهُ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ : أَنَّهُمْ تَسَحَّرُوا وَلَمْ يَتَيَقَّنُوا طُلُوعَ الْفَجْرِ ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ ظَنَّ طُلُوعَهُ وَبَعْضَهُمْ لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُمْ تَسَامَحُوا فِي السُّحُورِ عِنْدَ مُقَارَبَةِ الْفَجْرِ . رُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَحُذَيْفَةَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَنْ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ ، مِنْهُمْ : مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، وَأَبُو مِجْلَزٍ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَأَبُو الضُّحَى ، وَأَبُو وَائِلٍ ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَمُجَاهِدٌ ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ . وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَعْمَشُ وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ . وَقَدْ حَرَّرْنَا أَسَانِيدَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ [ ص: 515 ] الصِّيَامِ الْمُفْرَدِ ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ .
وَحَكَى أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ ، عَنْ بَعْضِهِمْ : أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَمَا يَجُوزُ الْإِفْطَارُ بِغُرُوبِهَا .
قُلْتُ : وَهَذَا الْقَوْلُ مَا أَظُنُّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَقِرُّ لَهُ قَدَمٌ عَلَيْهِ ، لِمُخَالَفَتِهِ نَصَّ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ ، عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَمْنَعُكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ عَنْ سُحُورِكُمْ ، فَإِنَّهُ يُنَادِي بِلَيْلٍ ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ " . لَفْظُ الْبُخَارِيِّ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ ، عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْسَ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ فِي الْأُفُقِ وَلَكِنَّهُ الْمُعْتَرِضُ الْأَحْمَرُ " . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُمَا : " كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا يَهِيدَنَّكُمُ السَّاطِعُ الْمُصْعِدُ ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَعْتَرِضَ لَكُمُ الْأَحْمَرُ " .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي قُشَيْرٍ : سَمِعْتُ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَغُرَّنَّكُمْ نِدَاءُ بِلَالٍ وَهَذَا الْبَيَاضُ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ ، أَوْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ " .
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَغَيْرِهِ ، عَنْ سَوَادَةَ بْنِ حَنْظَلَةَ ، عَنْ سَمُرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ ، وَلَكِنَّ الْفَجْرَ الْمُسْتَطِيرَ فِي الْأُفُقِ " .
قَالَ : وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوَادَةَ الْقُشَيْرِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا هَذَا الْبَيَاضُ ، لِعَمُودِ الصُّبْحِ حَتَّى يَسْتَطِيرَ " .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ يَعْنِي بْنَ عُلَيَّةَ مِثْلَهُ سَوَاءً .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ عَنْ سُحُورِهِ أَوْ قَالَ نِدَاءُ بِلَالٍ فَإِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ أَوْ [ قَالَ ] يُنَادِي لِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ وَلِيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ ، وَلَيْسَ الْفَجْرُ أَنْ يَقُولَ [ ص: 516 ] هَكَذَا أَوْ هَكَذَا ، حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا " .
وَرَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ التَّيْمِيِّ ، بِهِ .
وَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ النَّخَعِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْفَجْرُ فَجْرَانِ ، فَالذِي كَأَنَّهُ ذَنْبُ السِّرْحَانِ لَا يُحَرِّمُ شَيْئًا ، وَأَمَّا الْمُسْتَطِيرُ الذِي يَأْخُذُ الْأُفُقَ ، فَإِنَّهُ يُحِلُّ الصَّلَاةَ وَيُحَرِّمُ الطَّعَامَ " . وَهَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : هُمَا فَجْرَانِ ، فَأَمَّا الذِي يَسْطَعُ فِي السَّمَاءِ فَلَيْسَ يُحِلُّ وَلَا يُحَرِّمُ شَيْئًا ، وَلَكِنَّ الْفَجْرَ الذِي يَسْتَبِينُ عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ ، هُوَ الذِي يُحَرِّمُ الشَّرَابَ . قَالَ عَطَاءٌ : فَأَمَّا إِذَا سَطَعَ سُطُوعًا فِي السَّمَاءِ ، وَسُطُوعُهُ أَنْ يَذْهَبَ فِي السَّمَاءِ طُولًا فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ بِهِ شَرَابٌ لِصِيَامٍ وَلَا صَلَاةٌ ، وَلَا يَفُوتُ بِهِ حَجٌّ وَلَكِنْ إِذَا انْتَشَرَ عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ ، حَرَّمَ الشَّرَابَ لِلصِّيَامِ وَفَاتَ الْحَجُّ
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
مَسْأَلَةٌ : وَمِنْ جَعْلِهِ تَعَالَى الْفَجْرَ غَايَةً لِإِبَاحَةِ الْجِمَاعِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِمَنْ أَرَادَ الصِّيَامَ ، يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلْيَغْتَسِلْ ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ ، وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا ، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّهُمَا قَالَتَا : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ . وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَهُمَا : ثُمَّ لَا يُفْطِرُ وَلَا يَقْضِي . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ وَأَنَا جُنُبٌ ، فَأَصُومُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ وَأَنَا جُنُبٌ ، فَأَصُومُ " . فَقَالَ : لَسْتَ مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ . فَقَالَ : " وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِمَا أَتَّقِي " . 
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ هَمَّامٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَأَحَدُكُمْ جُنُبٌ فَلَا يَصُمْ يَوْمَئِذٍ " فَإِنَّهُ حَدِيثٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، كَمَا تَرَى وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ [ ص: 517 ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ عَنْهُ ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَالْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَرْفَعْهُ . فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ عَلَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ ، وَيُحْكَى هَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَسَالِمٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَنْ يُصْبِحَ جُنُبًا نَائِمًا فَلَا عَلَيْهِ ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ ، أَوْ مُخْتَارًا فَلَا صَوْمَ لَهُ ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ . يُحْكَى هَذَا عَنْ عُرْوَةَ ، وَطَاوُسٍ ، وَالْحَسَنِ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْفَرْضِ فَيُتِمُّهُ وَيَقْضِيهِ وَأَمَّا النَّفْلُ فَلَا يَضُرُّهُ . رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ . وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَيْضًا ، وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى نَسْخَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِحَدِيثَيْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ ، وَلَكِنْ لَا تَارِيخَ مَعَهُ .
وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، وَهُوَ بَعِيدٌ أَيْضًا ، وَأَبْعَدُ ; إِذْ لَا تَارِيخَ ، بَلِ الظَّاهِرُ مِنَ التَّارِيخِ خِلَافُهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ " فَلَا صَوْمَ لَهُ " لِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ الدَّالَّيْنِ عَلَى الْجَوَازِ . وَهَذَا الْمَسْلَكُ أَقْرَبُ الْأَقْوَالِ وَأَجْمَعُهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) يَقْتَضِي الْإِفْطَارَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ حُكْمًا شَرْعِيًّا ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ " .
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ " أَخْرَجَاهُ أَيْضًا .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَقُولُ اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ : إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِي إِلِيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا " .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ ، بِهِ . وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا : حَدَّثَنَا عَفَّانُ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادٍ ، سَمِعْتُ إِيَادَ بْنَ لَقِيطٍ قَالَ : سَمِعْتُ لَيْلَى امْرَأَةَ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ ، قَالَتْ : أَرَدْتُ أَنْ أَصُومَ يَوْمَيْنِ مُوَاصَلَةً ، فَمَنَعَنِي بَشِيرٌ وَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ . وَقَالَ : " يَفْعَلُ ذَلِكَ النَّصَارَى ، وَلَكِنْ صُومُوا كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ ، وَأَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ فَأَفْطِرُوا " .
[ وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ [ ص: 518 ] حَمْزَةَ ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي ذَرٍّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاصَلَ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَةً ; فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَبِلَ وِصَالَكَ ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَالَ : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) فَلَا صِيَامَ بَعْدَ اللَّيْلِ ، وَأَمَرَنِي بِالْوِتْرِ قَبْلَ الْفَجْرِ ، وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا بَأْسَ بِهِ ، أَوْرَدَهُ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي ذَرٍّ فِي تَارِيخِهِ ] .
وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ النَّهْيُ عَنِ الْوِصَالِ ، وَهُوَ أَنْ يَصِلَ صَوْمَ يَوْمٍ بِيَوْمٍ آخَرَ ، وَلَا يَأْكُلَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ :
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تُوَاصِلُوا " . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّكَ تُوَاصِلُ . قَالَ : " فَإِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي " . قَالَ : فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ ، فَوَاصَلَ بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ ، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ ، فَقَالَ : " لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ " كَالْمُنَكِّلِ بِهِمْ .
وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ بِهِ . وَكَذَلِكَ أَخْرَجَا النَّهْيَ عَنِ الْوِصَالِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ .
وَعَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ ، رَحْمَةً لَهُمْ ، فَقَالُوا : إِنَّكَ تُوَاصِلُ . قَالَ : " إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ ، إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي " .
فَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ، وَثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنَّهُ كَانَ يُقَوَّى عَلَى ذَلِكَ وَيُعَانُ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فِي حَقِّهِ إِنَّمَا كَانَ مَعْنَوِيًّا لَا حِسِّيًّا ، وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ مُوَاصِلًا مَعَ الْحِسِّيِّ ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
لَهَا أَحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا عَنِ الشَّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنِ الزَّادِ
وَأَمَّا مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمْسِكَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ فَلَهُ ذَلِكَ ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تُوَاصِلُوا ، فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إِلَى السَّحَرِ " . قَالُوا : فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : " إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ ، إِنِّي أَبَيْتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي ، وَسَاقٍ يَسْقِينِي " . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْرَائِيلَ الْعَبْسِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ ، عَنْ أُمِّ وَلَدِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ : أَنَّهَا مَرَّتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَسَحَّرُ ، فَدَعَاهَا إِلَى الطَّعَامِ . فَقَالَتْ : إِنِّي صَائِمَةٌ . قَالَ : وَكَيْفَ تَصُومِينَ ؟ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " أَيْنَ أَنْتِ مِنْ [ ص: 519 ] وِصَالِ آلِ مُحَمَّدٍ،مِنَ السَّحَرِ إِلَى السَّحَرِ " 
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ، عَنْ عَلِيٍّ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوَاصِلُ مِنَ السَّحَرِ إِلَى السَّحَرِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ ، أَنَّهُمْ كَانُوا يُوَاصِلُونَ الْأَيَّامَ الْمُتَعَدِّدَةَ [ وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ ] وَحَمَلَهُ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ رِيَاضَةً لِأَنْفُسِهِمْ ، لَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ عِبَادَةً . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ مِنَ النَّهْيِ أَنَّهُ إِرْشَادٌ ، [ أَيْ ] مِنْ بَابِ الشَّفَقَةِ ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ : " رَحْمَةً لَهُمْ " ، فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُهُ عَامِرٌ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ يَتَجَشَّمُونَ ذَلِكَ وَيَفْعَلُونَهُ ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَ قُوَّةً عَلَيْهِ . وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلَ مَا يُفْطِرُونَ عَلَى السَّمْنِ وَالصَّبْرِ لِئَلَّا تَتَخَرَّقَ الْأَمْعَاءُ بِالطَّعَامِ أَوَّلًا . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يُوَاصِلُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَيُصْبِحُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ أَقْوَاهُمْ وَأَجْلَدُهُمْ . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : إِنَّمَا فَرَضَ اللَّهُ الصِّيَامَ بِالنَّهَارِ فَإِذَا جَاءَ بِالْلَّيْلِ فَمَنْ شَاءَ أَكَلَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَأْكُلْ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : هَذَا فِي الرَّجُلِ يَعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ أَوْ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ ، فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَ النِّسَاءَ لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى يَقْضِيَ اعْتِكَافَهُ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ : كَانَ الرَّجُلُ إِذَا اعْتَكَفَ فَخَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ ، جَامَعَ إِنْ شَاءَ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) أَيْ : لَا تَقْرَبُوهُنَّ مَا دُمْتُمْ عَاكِفِينَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا فِي غَيْرِهِ . وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ إِنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، وَمُقَاتِلٍ ، قَالُوا : لَا يَقْرَبُهَا وَهُوَ مُعْتَكِفٌ . وَهَذَا الذِي حَكَاهُ عَنْ هَؤُلَاءِ هُوَ الْأَمْرُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ : أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ النِّسَاءُ مَا دَامَ مُعْتَكِفًا فِي مَسْجِدِهِ ، وَلَوْ ذَهَبَ إِلَى مَنْزِلِهِ لِحَاجَةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَلَبَّثَ فِيهِ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا يَفْرَغُ مِنْ حَاجَتِهِ تِلْكَ ، مِنْ قَضَاءِ الْغَائِطِ ، أَوْ أَكْلٍ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَبِّلَ امْرَأَتَهُ ، وَلَا يَضُمَّهَا إِلَيْهِ ، وَلَا يَشْتَغِلَ بِشَيْءٍ سِوَى اعْتِكَافِهِ ، وَلَا يَعُودَ الْمَرِيضَ ، لَكِنْ يَسْأَلُ عَنْهُ وَهُوَ مَارٌّ فِي طَرِيقِهِ .
وَلِلْاعْتِكَافِ أَحْكَامٌ مُفَصَّلَةٌ فِي بَابِهِ ، مِنْهَا مَا هُوَ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا قِطْعَةً صَالِحٍةً مِنْ ذَلِكَ فِي آخِرِ كِتَابِ الصِّيَامِ ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ .
وَلِهَذَا كَانَ الْفُقَهَاءُ الْمُصَنِّفُونَ يُتْبِعُونَ كِتَابَ الصِّيَامِ بِكِتَابِ الِاعْتِكَافِ ، اقْتِدَاءً بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، فَإِنَّهُ نَبَّهَ عَلَى ذِكْرِ الِاعْتِكَافِ بَعْدَ ذِكْرِ الصَّوْمِ . وَفِي ذِكْرِهِ تَعَالَى الِاعْتِكَافَ بَعْدَ الصِّيَامِ إِرْشَادٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى [ ص: 520 ] الِاعْتِكَافِ فِي الصِّيَامِ ، أَوْ فِي آخِرِ شَهْرِ الصِّيَامِ ، كَمَا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ . ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ . أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ كَانَتْ تَزُورُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْتَكَفٌ فِي الْمَسْجِدِ ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ، ثُمَّ قَامَتْ لِتَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلَهَا وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَمْشِيَ مَعَهَا حَتَّى تَبْلُغَ دَارَهَا ، وَكَانَ مَنْزِلُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي جَانِبِ الْمَدِينَةِ ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ لَقِيَهُ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا وَفِي رِوَايَةٍ : تَوَارَيَا أَيْ حَيَاءً مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِ أَهْلِهِ مَعَهُ ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ " أَيْ : لَا تُسْرِعَا ، وَاعْلَمَا أَنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ ، أَيْ : زَوْجَتِي . فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا " أَوْ قَالَ : " شَرًّا " .
قَالَ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : أَرَادَ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَنْ يُعَلِّمَ أُمَّتَهُ التَّبَرِّيَ مِنَ التُّهْمَةِ فِي مَحَلَهَا ، لِئَلَّا يَقَعَا فِي مَحْذُورٍ ، وَهُمَا كَانَا أَتْقَى لِلَّهِ أَنْ يَظُنَّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْمُبَاشِرَةِ : إِنَّمَا هُوَ الْجِمَاعُ وَدَوَاعِيهِ مِنْ تَقْبِيلٍ ، وَمُعَانَقَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَأَمَّا مُعَاطَاةُ الشَّيْءِ وَنَحْوَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ ; فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْنِي إِلِيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ . قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَقَدْ كَانَ الْمَرِيضُ يَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إِلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ .
وَقَوْلُهُ : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ) أَيْ : هَذَا الذِي بَيَّنَّاهُ ، وَفَرَضْنَاهُ ، وَحَدَّدْنَاهُ مِنَ الصِّيَامِ ، وَأَحْكَامِهِ ، وَمَا أَبَحْنَا فِيهِ وَمَا حَرَّمْنَا ، وَذِكْرِ غَايَاتِهِ وَرُخَصِهِ وَعَزَائِمِهِ ، حُدُودُ اللَّهِ ، أَيْ : شَرَعَهَا اللَّهُ وَبَيَّنَهَا بِنَفْسِهِ ( فَلَا تَقْرَبُوهَا ) أَيْ : لَا تُجَاوِزُوهَا ، وَتَعْتَدُوهَا .
وَكَانَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ يَقُولَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ) أَيِ : الْمُبَاشَرَةُ فِي الِاعْتِكَافِ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ : يَعْنِي هَذِهِ الْحُدُودَ الْأَرْبَعَةَ ، وَيَقْرَأُ ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ) حَتَّى بَلَغَ : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) قَالَ : وَكَانَ أَبِي وَغَيْرُهُ مِنْ مَشْيَخَتِنَا يَقُولُونَ هَذَا وَيَتْلُونَهُ عَلَيْنَا .
( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ ) أَيْ : كَمَا بَيَّنَ الصِّيَامَ وَأَحْكَامَهُ وَشَرَائِعَهُ وَتَفَاصِيلَهُ ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ سَائِرَ الْأَحْكَامِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) أَيْ : يَعْرِفُونَ كَيْفَ يَهْتَدُونَ ، وَكَيْفَ يُطِيعُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( هُوَ الذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلَمَاتِ إِلَى النُّورِ [ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) ] . [ الْحَدِيدِ : 9 ] .
118
[ ص: 521 ] ) ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون( 188)

قال علي ابن أبي طلحة ، وعن ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال ، وليس عليه فيه بينة ، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام ، وهو يعرف أن الحق عليه ، وهو يعلم أنه آثم آكل حرام
 
وكذا روي عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل بن حيان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا : لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم . وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا إنما أنا بشر ، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم ، فإنما هي قطعة من نار ، فليحملها ، أو ليذرها " . فدلت هذه الآية الكريمة ، وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر ، فلا يحل في نفس الأمر حراما هو حرام ، ولا يحرم حلالا هو حلال ، وإنما هو يلزم في الظاهر ، فإن طابق في نفس الأمر فذاك ، وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره ; ولهذا قال تعالى : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا ) [ أي : طائفة ] ( من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ) أي : تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجون في كلامكم .
قال قتادة : اعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحل لك حراما ، ولا يحق لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى ويشهد به الشهود ، والقاضي بشر يخطئ ويصيب ، واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة ، فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا .
وقال أبو حنيفة : حكم الحاكم بطلاق الزوجة إذا شهد عنده شاهدا زور في نفس الأمر ، ولكنهما عدلان عنده يحلها للأزواج حتى للشاهدين ويحرمها على زوجها الذي حكم بطلاقها منه ، وقالوا : هذا كلعان المرأة ، إنه يبينها من زوجها ويحرمها عليه ، وإن كانت كاذبة في نفس الأمر ، ولو علم الحاكم بكذبها لحدها ولما حرمها وهذا أولى .
مسألة : قال القرطبي : أجمع أهل السنة على أن من أكل مالا حراما ولو ما يصدق عليه اسم المال أنه يفسق ، وقال بشر بن المعتمر في طائفة من المعتزلة : لا يفسق إلا بأكل مائتي درهم فما زاد ، ولا يفسق بما دون ذلك ، وقال الجبائي : يفسق بأكل درهم فما فوقه إلا بما دونه .
119
( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون ( 189 )
[ ص: 522 ]قال العوفي عن ابن عباس : سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة ، فنزلت هذه الآية : ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس [ والحج ] ) يعلمون بها حل دينهم ، وعدة نسائهم ، ووقت حجهم .
وقال أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : بلغنا أنهم قالوا : يا رسول الله ، لم خلقت الأهلة ؟ فأنزل الله ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس ) يقول : جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم ، وعدة نسائهم ، ومحل دينهم .
وكذا روي عن عطاء ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، والربيع بن أنس ، نحو ذلك .
وقال عبد الرزاق ، عن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جعل الله الأهلة مواقيت للناس ، فصوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما " .
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث ابن أبي رواد ، به . وقال : كان ثقة عابدا مجتهدا شريف النسب ، فهو صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .
وقال محمد بن جابر ، عن قيس بن طلق ; عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جعل الله الأهلة ، فإذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " . وكذا روي من حديث أبي هريرة ، ومن كلام علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه .
وقوله : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها ) قال البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره ، فأنزل الله ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها ) .
وكذا رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : كانت الأنصار إذا قدموا من سفر لم يدخل الرجل من قبل بابه ، فنزلت هذه الآية .
وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر : كانت قريش تدعى الحمس ، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام ، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام ، فبينا رسول الله [ ص: 523 ] صلى الله عليه وسلم في بستان إذ خرج من بابه ، وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري ، فقالوا : يا رسول الله ، إن قطبة بن عامر رجل تاجر وإنه خرج معك من الباب . فقال له : " ما حملك على ما صنعت ؟ " قال : رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت . فقال : " إني [ رجل ] أحمس " . قال له : فإن ديني دينك . فأنزل الله ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها ) رواه ابن أبي حاتم . ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه . وكذا روي عن مجاهد ، والزهري ، وقتادة ، وإبراهيم النخعي ، والسدي ، والربيع بن أنس .
وقال الحسن البصري : كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرا وخرج من بيته يريد سفره الذي خرج له ، ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره ، لم يدخل البيت من بابه ، ولكن يتسوره من قبل ظهره ، فقال الله تعالى : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها [ ولكن البر من اتقى ] ) الآية .
وقال محمد بن كعب : كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت ، فأنزل الله هذه الآية .
وقال عطاء بن أبي رباح : كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها ويرون أن ذلك أدنى إلى البر ، فقال الله تعالى : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها )
وقوله : ( واتقوا الله لعلكم تفلحون ) أي : اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به ، واتركوا ما نهاكم عنه ( لعلكم تفلحون ) غدا إذا وقفتم بين يديه ، فيجزيكم بأعمالكم على التمام ، والكمال .
120
( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( 190 ) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ( 191 ) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 192 ) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ( 193 ) 

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) قَالَ : هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ بِالْمَدِينَةِ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُ مَنْ قَاتَلَهُ ، وَيَكُفُّ عَمَّنْ كَفَّ عَنْهُ حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٍ وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ حَتَّى قَالَ:هَذِهِ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [ التَّوْبَةِ : 5 ] وَفِي هَذَا نَظَرٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ : ( الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) إِنَّمَا هُوَ تَهْيِيجٌ وَإِغْرَاءٌ بِالْأَعْدَاءِ الَّذِينَ هِمَّتُهُمْ قِتَالُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ ، أَيْ : كَمَا [ ص: 524 ] يُقَاتِلُونَكُمْ فَقَاتِلُوهُمْ أَنْتُمْ ، كَمَا قَالَ : ( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) [ التَّوْبَةِ : 36 ] ; وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ) أَيْ : لِتَكُنْ هِمَّتُكُمْ مُنْبَعِثَةً عَلَى قِتَالِهِمْ ، كَمَا أَنَّ هِمَّتَهُمْ مُنْبَعِثَةٌ عَلَى قِتَالِكُمْ ، وَعَلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنْ بِلَادِهِمُ التِي أَخْرَجُوكُمْ مِنْهَا ، قِصَاصًا .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ، ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) الْآيَةَ [ الْحَجِّ : 39 ] وَهُوَ الْأَشْهَرُ وَبِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) أَيْ : قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تَعْتَدُوا فِي ذَلِكَ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ارْتِكَابُ الْمَنَاهِي كَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مِنَ الْمَثُلَةِ ، وَالْغُلُولِ ، وَقَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشُّيُوخِ الَّذِينَ لَا رَأْيَ لَهُمْ وَلَا قِتَالَ فِيهِمْ ، وَالرُّهْبَانِ وَأَصْحَابِ الصَّوَامِعِ ، وَتَحْرِيقِ الْأَشْجَارِ وَقَتْلِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ ، وَغَيْرُهُمْ . وَلِهَذَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، عَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : " اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِالْلَّهِ ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا ، وَلَا تَغْدِرُوا ، وَلَا تُمَثِّلُوا ، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا ، وَلَا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ " . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ : " اخْرُجُوا بِسْمِ اللَّهِ ، قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِالْلَّهِ ، لَا تَغْدِرُوا وَلَا تَغُلُّوا ، وَلَا تُمَثِّلُوا ، وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ " . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
وَلِأَبِي دَاوُدَ ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ، نَحْوَهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : وُجِدَتِ امْرَأَةٌ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْتُولَةً ، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ سَلَّامٍ ، حَدَّثَنَا الْأَجْلَحُ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ ، عَنْ رِبْعَيِ بْنِ حِرَاشٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ : ضَرَبَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْثَالًا وَاحِدًا ، وَثَلَاثَةً ، وَخَمْسَةً ، وَسَبْعَةً ، وَتِسْعَةً ، وَأَحَدَ عَشَرَ ، فَضَرَبَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا مَثَلًا وَتَرَكَ سَائِرَهَا ، قَالَ : " إِنَّ قَوْمًا كَانُوا أَهْلَ ضَعْفٍ وَمَسْكَنَةٍ ، قَاتَلَهُمْ أَهْلُ تَجَبُّرٍ وَعَدَاءٍ ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ أَهْلَ الضَّعْفِ عَلَيْهِمْ ، فَعَمَدُوا إِلَى عَدُوِّهِمْ فَاسْتَعْمَلُوهُمْ وَسَلَّطُوهُمْ فَأَسْخَطُوا اللَّهَ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ " .
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنُ الْإِسْنَادِ . وَمَعْنَاهُ : أَنَّ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءَ لَمَّا قَدَرُوا عَلَى الْأَقْوِيَاءِ ، فَاعْتَدَوْا عَلَيْهِمْ وَاسْتَعْمَلُوهُمْ فِيمَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ ، أَسْخَطُوا اللَّهَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ هَذَا الِاعْتِدَاءِ . وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا .
وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ فِيهِ إِزْهَاقُ النُّفُوسِ وَقَتْلُ الرِّجَالِ ، نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَا هُمْ مُشْتَمَلُونَ عَلَيْهِ مِنَ [ ص: 525 ] الْكُفْرِ بِالْلَّهِ وَالشِّرْكِ بِهِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِهِ أَبْلَغُ وَأَشَدُّ وَأَعْظَمُ وَأَطَمُّ مِنَ الْقَتْلِ ; وَلِهَذَا قَالَ : ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ) قَالَ أَبُو مَالِكٍ : أَيْ : مَا أَنْتُمْ مُقِيمُونَ عَلَيْهِ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ : ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ) يَقُولُ : الشِّرْكُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : " إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ ، حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، لَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ . فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا : إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ " .
يَعْنِي بِذَلِكَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ قِتَالَهُ أَهْلَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ، فَإِنَّهُ فَتَحَهَا عَنْوَةً ، وَقُتِلَتْ رِجَالٌ مِنْهُمْ عِنْدَ الْخَنْدَمَةِ ، وَقِيلَ : صُلْحًا ; لِقَوْلِهِ : مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ .
[ وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ : أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْقِتَالِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَنْسُوخٌ . قَالَ قَتَادَةُ : نَسَخَهَا قَوْلُهُ : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ ) [ التَّوْبَةِ : 5 ] . قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ : نَسَخَهَا قَوْلُهُ : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وَفِي هَذَا نَظَرٌ ] .
وَقَوْلُهُ :(حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ) يَقُولُ تَعَالَى : لَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يَبْدَأُوكُمْ بِالْقِتَالِ فِيهِ ، فَلَكُمْ حِينَئِذٍ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُهُمْ دَفْعًا لِلصِّيَالِ كَمَا بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَلَى الْقِتَالِ ، لَمَّا تَأَلَّبَتْ عَلَيْهِ بُطُونُ قُرَيْشٍ وَمَنْ وَالَاهُمْ مِنْ أَحْيَاءِ ثَقِيفٍ وَالْأَحَابِيشِ عَامَئِذٍ ، ثُمَّ كَفَّ اللَّهُ الْقِتَالَ بَيْنَهُمْ فَقَالَ : ( وَهُوَ الذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) [ الْفَتْحِ : 24 ] ، ، وَقَالَ : ( وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) [ الْفَتْحِ : 25 ] .
وَقَوْلُهُ : ( فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أَيْ : فَإِنْ تَرَكُوا الْقِتَالَ فِي الْحَرَمِ ، وَأَنَابُوا إِلَى الْإِسْلَامِ وَالتَّوْبَةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ [ غَفُورٌ رَحِيمٌ ] يَغْفِرُ ذُنُوبَهُمْ ، وَلَوْ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا الْمُسْلِمِينَ فِي حَرَمِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ لِمَنْ تَابَ مِنْهُ إِلَيْهِ .
ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِقِتَالِ الْكُفَّارِ : ( حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) أَيْ : شِرْكٌ . قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالرَّبِيعُ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ .
( وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) أَيْ : يَكُونَ دِينُ اللَّهِ هُوَ الظَّاهِرُ [ الْعَالِي ] عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، قَالَ : سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شُجَاعَةً ، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً ، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً ، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : " مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ [ ص: 526 ] فِي سَبِيلِ اللَّهِ " . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ " وَقَوْلُهُ : ( فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ) يَقُولُ : فَإِنِ انْتَهَوْا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ ، وَقِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَكُفُّوا عَنْهُمْ ، فَإِنَّ مَنْ قَاتَلَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ ظَالِمٌ ، وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ : لَا يُقَاتَلُ إِلَّا مَنْ قَاتَلَ . أَوْ يَكُونُ تَقْدِيرُهُ ; فَإِنِ انْتَهَوْا فَقَدْ تَخَلَّصُوا مِنَ الظُّلْمِ ، وَهُوَ الشِّرْكُ . فَلَا عُدْوَانَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْمُرَادُ بِالْعُدْوَانِ هَاهُنَا الْمُعَاقَبَةُ وَالْمُقَاتَلَةُ ، كَقَوْلِهِ : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) وَقَوْلِهِ : ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلَهَا ) [ الشُّورَى : 40 ] ، ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) [ النَّحْلِ : 126 ] . وَلِهَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ : الظَّالِمُ : الذِي أَبَى أَنْ يَقُولَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : قَوْلُهُ : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ] ) الْآيَةَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : أَتَاهُ رَجُلَانِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَا : إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ وَصَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ ؟ قَالَ : يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي . قَالَا : أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) ؟ قَالَ : قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ . زَادَ عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي فُلَانٌ وَحَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو الْمُعَافِرِيِّ أَنَّ بُكَيْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ ، عَنْ نَافِعٍ : أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ [ لَهُ ] : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَحُجَّ عَامًا وَتَعْتَمِرَ عَامًا ، وَتَتْرُكَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا رَغَّبَ اللَّهُ فِيهِ ؟ فَقَالَ : يَا ابْنَ أَخِي ، بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ : الْإِيمَانُ بِالْلَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ ، وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ ، وَحَجُّ الْبَيْتِ . قَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أَلَا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا التِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) [ الْحُجُرَاتِ : 9 ] ، ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) قَالَ : فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا وَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ : إِمَّا قَتَلُوهُ أَوْ عَذَّبُوهُ حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ ، قَالَ : فَمَا قَوْلُكَ فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ ؟ قَالَ : أَمَّا عُثْمَانُ فَكَانَ اللَّهُ عَفَا عَنْهُ ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَكَرِهْتُمْ أَنْ تَعْفُوا عَنْهُ ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَتَنَهُ ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَقَالَ : هَذَا بَيْتُهُ حَيْثُ تَرَوْنَ .
121
( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( 194 ) )
[ ص: 527 ] قَالَ عِكْرِمَةُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَالسُّدِّيِّ ، وَمِقْسَمٍ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمْ : لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَمِرًا فِي سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ ، وَحَبَسَهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الدُّخُولِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ ، وَصَدُّوهُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ ، وَهُوَ شَهْرٌ حَرَامٌ ، حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى الدُّخُولِ مِنْ قَابِلٍ ، فَدَخَلَهَا فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ ، هُوَ وَمَنْ كَانَ [ مَعَهُ ] مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَقَصَّهُ اللَّهُ مِنْهُمْ ، فَنَزَلَتْ فِي ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ : ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ )
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى ، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُغْزَى وَيُغْزَوْا فَإِذَا حَضَرَهُ أَقَامَ حَتَّى يَنْسَلِخَ .
هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ ; وَلِهَذَا لَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُخَيِّمٌ بِالْحُدَيْبِيَةِ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ وَكَانَ قَدْ بَعَثَهُ فِي رِسَالَةٍ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بَايَعَ أَصْحَابَهُ ، وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ تَحْتَ الشَّجَرَةِ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ، فَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يُقْتَلْ كَفَّ عَنْ ذَلِكَ ، وَجَنَحَ إِلَى الْمُسَالِمَةِ وَالْمُصَالِحٍةِ ، فَكَانَ مَا كَانَ .
وَكَذَلِكَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِتَالِ هَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَتَحَصَّنَ فَلُّهُمْ بِالطَّائِفِ ، عَدَلَ إِلَيْهَا ، فَحَاصَرَهَا وَدَخَلَ ذُو الْقِعْدَةِ وَهُوَ مُحَاصِرُهَا بِالْمَنْجَنِيقِ ، وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهَا إِلَى كَمَالِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ . فَلَمَّا كَثُرَ الْقَتْلُ فِي أَصْحَابِهِ انْصَرَفَ عَنْهَا وَلَمْ تُفْتَحْ ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ وَاعْتَمَرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ ، حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ . وَكَانَتْ عُمْرَتُهُ هَذِهِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ أَيْضًا عَامَ ثَمَانٍ ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ :(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) أَمَرَ بِالْعَدْلِ حَتَّى فِي الْمُشْرِكِينَ : كَمَا قَالَ : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) [ النَّحْلِ : 126 ] . وَقَالَ : ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) [ الشُّورَى : 40 ] .
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) نَزَلَتْ بِمَكَّةَ حَيْثُ لَا شَوْكَةَ وَلَا جِهَادَ ، ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ الْجِهَادِ بِالْمَدِينَةِ . وَقَدْ رَدَّ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ ، وَقَالَ : بَلْ [ هَذِهِ ] الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ بَعْدَ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ ، وَعَزَا ذَلِكَ إِلَى مُجَاهِدٍ ، رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَدْ أُطْلِقَ هَاهُنَا الِاعْتِدَاءُ عَلَى الِاقْتِصَاصِ ، مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ ، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ أُمِّ كُلْثُومَ :
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجَهَلْ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ : [ ص: 528 ] لِيَ اسْتِوَاءٌ إِنْ مَوالِيَّ اسْتَوَا لِيَ الْتِوَاءٌ إِنْ مُعَادِيَّ الْتَوَا
وَقَالَ غَيْرُهُ :
وَلِي فَرَسٌ لِلْحِلْمِ بِالْحِلْمِ مُلْجَمٌ وَلِي فَرَسٌ لِلْجَهْلِ بِالْجَهْلِ مُسْرَجُ
وَمَنْ رَامَ تَقْوِيمِي فَإِنِّي مُقَوَّمٌ وَمَنْ رَامَ تَعْوِيجِي فَإِنِّي مُعَوَّجُ
وَقَوْلُهُ : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) أَمْرٌ لَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ ، وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
122
( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( 195 ) )

قَالَ الْبُخَارِيُّ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ ، عَنْ حُذَيْفَةَ : ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) قَالَ : نَزَلَتْ فِي النَّفَقَةِ .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ ، بِهِ مِثْلُهُ . قَالَ : وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَالْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، وَالسُّدِّيِّ ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ ، نَحْوُ ذَلِكَ .
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ : حَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ عَلَى صَفِّ الْعَدُوِّ حَتَّى خَرَقَهُ ، وَمَعَنَا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ ، فَقَالَ نَاسٌ : أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ . فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ : نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، إِنَّمَا نَزَلَتْ فِينَا ، صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدْنَا مَعَهُ الْمُشَاهِدَ وَنَصَرْنَاهُ ، فَلَمَّا فَشَا الْإِسْلَامُ وَظَهَرَ ، اجْتَمَعْنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ نَجِيًّا ، فَقُلْنَا : قَدْ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصْرِهِ ، حَتَّى فَشَا الْإِسْلَامُ وَكَثُرَ أَهْلُهُ ، وَكُنَّا قَدْ آثَرْنَاهُ عَلَى الْأَهْلِينَ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ، وَقَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ، فَنَرْجِعُ إِلَى أَهْلِينَا وَأَوْلَادِنَا فَنُقِيمُ فِيهِمَا . فَنَزَلَ فِينَا : ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ [ فِي ] الْإِقَامَةِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَتَرْكِ الْجِهَادِ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، وَالْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ، كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ، بِهِ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ . وَقَالَ الْحَاكِمُ : عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ . وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ : كُنَّا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ ;[ ص: 529 ]
وَعَلَى أَهْلِ الشَّامِ رَجُلٌ ، يُرِيدُ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ صَفٌّ عَظِيمٌ مِنَ الرُّومِ ، فَصَفَفْنَا لَهُمْ فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ : ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا فَصَاحَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَقَالُوا : سُبْحَانَ اللَّهِ ، أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ . فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّكُمْ لَتَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى غَيْرِ التَّأْوِيلِ ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، وَإِنَّا لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ دِينَهُ ، وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ قُلْنَا فِيمَا بَيْنَنَا : لَوْ أَقْبَلْنَا عَلَى أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَاهَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ : إِنْ حَمَلْتُ عَلَى الْعَدُوِّ وَحْدِي فَقَتَلُونِي أَكُنْتُ أَلْقَيْتُ بِيَدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ:( فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ) [ النِّسَاءِ : 84 ] ، إِنَّمَا هَذَا فِي النَّفَقَةِ . رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، بِهِ . وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ . وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ ، وَقَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنِ الْبَرَاءِ فَذَكَرَهُ . وَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ : ( لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ) وَلَكِنَّ التَّهْلُكَةَ أَنْ يُذْنِبَ الرَّجُلُ الذَّنْبَ ، فَيُلْقِي بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَلَا يَتُوبُ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ : أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ أَخْبَرَهُ : أَنَّهُمْ حَاصَرُوا دِمَشْقَ ، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مَنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ ، فَأَسْرَعَ إِلَى الْعَدُوِّ وَحْدَهُ لِيَسْتَقْبِلَ ، فَعَابَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَرَفَعُوا حَدِيثَهُ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَمْرٌو فَرَدَّهُ ، وَقَالَ عَمْرٌو : قَالَ اللَّهُ : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) لَيْسَ ذَلِكَ فِي الْقِتَالِ ، إِنَّمَا هُوَ فِي النَّفَقَةِ أَنْ تُمْسِكَ بِيَدِكَ عَنِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَلَا تُلْقِ بِيَدِكَ إِلَى التَّهْلُكَةِ .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ دَاوُدَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ أَبِي جُبَيْرَةَ قَالَ : كَانَتِ الْأَنْصَارُ يَتَصَدَّقُونَ وَيُنْفِقُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ ، فَأَمْسَكُوا عَنِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَنَزَلَتْ : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) قَالَ : هُوَ الْبُخْلُ .
وَقَالَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي قَوْلِهِ : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) أَنْ يُذْنِبَ الرَّجُلُ الذَّنْبَ ، فَيَقُولُ : لَا يُغْفَرُ لِي ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : وَرُوِيَ عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ ، وَالْحَسَنِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَأَبِي قِلَابَةَ نَحْوَ ذَلِكَ . يَعْنِي : نَحْوُ قَوْلِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ : إِنَّهَا فِي الرَّجُلِ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يُغْفَرُ لَهُ ، فَيُلْقِي بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، أَيْ : يَسْتَكْثِرُ مِنَ الذُّنُوبِ فَيَهْلَكُ . وَلِهَذَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : [ ص: 530 ] التَّهْلُكَةُ : عَذَابُ اللَّهِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ جَمِيعًا : حَدَّثَنَا يُونُسُ ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ ، عَنِ الْقُرَظِيِّ : أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) قَالَ : كَانَ الْقَوْمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَيَتَزَوَّدُ الرَّجُلُ . فَكَانَ أَفْضَلَ زَادًا مِنَ الْآخَرِ ، أَنْفَقَ الْبَائِسُ مِنْ زَادِهِ ، حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ زَادِهِ شَيْءٌ ، أَحَبَّ أَنْ يُوَاسِيَ صَاحِبَهُ ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ:(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)  

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَيْضًا : أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ : ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) وَذَلِكَ أَنَّ رِجَالًا كَانُوا يَخْرُجُونَ فِي بُعُوثٍ يَبْعَثُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِغَيْرِ نَفَقَةٍ ، فَإِمَّا يُقْطَعُ بِهِمْ ، وَإِمَّا كَانُوا عِيَالًا فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ، وَلَا يُلْقُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، وَالتَّهْلُكَةُ أَنْ يَهْلَكَ رِجَالٌ مِنَ الْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ أَوْ مِنَ الْمَشْيِ . وَقَالَ لِمَنْ بِيَدِهِ فَضْلٌ : ( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )
وَمَضْمُونُ الْآيَةِ : الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الْقُرُبَاتِ وَوُجُوهِ الطَّاعَاتِ ، وَخَاصَّةً صَرْفُ الْأَمْوَالِ فِي قِتَالِ الْأَعْدَاءِ ، وَبَذْلُهَا فِيمَا يَقْوَى بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَدُوِّهِمْ ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ تَرْكِ فِعْلِ ذَلِكَ بِأَنَّهُ هَلَاكٌ وَدَمَارٌ إِنْ لَزِمَهُ وَاعْتَادَهُ . ثُمَّ عَطَفَ بِالْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ ، وَهُوَ أَعْلَى مَقَامَاتِ الطَّاعَةِ ، فَقَالَ : ( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )
123
( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 196 ) )

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَحْكَامَ الصِّيَامِ وَعَطَفَ بِذِكْرِ الْجِهَادِ ، شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمَنَاسِكِ ، فَأَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ إِكْمَالُ أَفْعَالِهِمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا ; وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ) أَيْ : صُدِدْتُمْ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ وَمُنِعْتُمْ مِنْ إِتْمَامِهِمَا . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُلْزِمٌ ، سَوَاءٌ قِيلَ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ أَوْ بِاسْتِحْبَابِهَا ، كَمَا هُمَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا [ص: 531]بِدَلَائِلِهِمَا فِي كِتَابِنَا " الْأَحْكَامُ " مُسْتَقْصًى وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ .
وَقَالَ شُعْبَةُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ عَلِيٍّ : أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) قَالَ : أَنْ تُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ .
وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَطَاوُسٌ . وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ مِنْ أَهْلِكَ ، لَا تُرِيدُ إِلَّا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ، وَتُهِلُّ مِنَ الْمِيقَاتِ لَيْسَ أَنْ تَخْرُجَ لِتِجَارَةٍ وَلَا لِحَاجَةٍ ، حَتَّى إِذَا كُنْتَ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ قُلْتَ : لَوْ حَجَجْتُ أَوِ اعْتَمَرْتُ ، وَذَلِكَ يُجْزِئُ ، وَلَكِنَّ التَّمَامَ أَنْ تَخْرُجَ لَهُ ، وَلَا تَخْرُجَ لِغَيْرِهِ .
وَقَالَ مَكْحُولٌ : إِتْمَامُهُمَا إِنْشَاؤُهُمَا جَمِيعًا مِنَ الْمِيقَاتِ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ : بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) [ قَالَ ] : مِنْ تَمَامِهِمَا أَنْ تُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ ، وَأَنْ تَعْتَمِرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ; إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) .
وَقَالَ هُشَيْمٌ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ : سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ : إِنِ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَيْسَتْ بِتَامَّةٍ فَقِيلَ لَهُ : الْعُمْرَةُ فِي الْمُحَرَّمِ ؟ قَالَ : كَانُوا يَرَوْنَهَا تَامَّةً . وَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ دِعَامَةَ ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلُّهَا فِي ذِي الْقِعْدَةِ : عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ ، وَعُمْرَةُ الْقَضَاءِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ ، وَعُمْرَةُ الْجِعِرَّانَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ ، وَعُمْرَتُهُ التِي مَعَ حَجَّتِهِ أَحْرَمَ بِهِمَا مَعًا فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ عَشْرٍ ، وَلَا اعْتَمَرَ قَطُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ ، وَلَكِنْ قَالَ لِأُمِّ هَانِئٍّ " عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي " . وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهَا [ كَانَتْ ] قَدْ عَزَمَتْ عَلَى الْحَجِّ مَعَهُ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَاعْتَاقَتْ عَنْ ذَلِكَ بِسَبَبِ الطُّهْرِ ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْحَدِيثِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ ، وَنَصَّ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) أَيْ : أَقِيمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) يَقُولُ : مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْعُمْرَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحُلَّ حَتَّى يُتِمَّهُمَا ، تَمَامُ الْحَجِّ يَوْمَ النَّحْرِ ، إِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ، وَطَافَ بِالْبَيْتِ ، وَبِالصَّفَا ، وَالْمَرْوَةِ ، فَقَدْ حَلَّ .
وَقَالَ قَتَادَةُ ، عَنْ زُرَارَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : الْحَجُّ عَرَفَةُ ، وَالْعُمْرَةُ الطَّوَافُ . وَكَذَا رَوَى الْأَعْمَشُ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ فِي قَوْلِهِ : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) قَالَ : هِيَ [ فِي ] قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ : [ ص: 532 ] " وَأَقِيمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إِلَى الْبَيْتِ " لَا تُجَاوِزْ بِالْعُمْرَةِ الْبَيْتَ . قَالَ إِبْرَاهِيمُ : فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، فَقَالَ : كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَالَ : " وَأَقِيمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إِلَى الْبَيْتِ " وَكَذَا رَوَى الثَّوْرِيُّ أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَرَأَ : " وَأَقِيمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إِلَى الْبَيْتِ " .
وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ : " وَأَتَمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ " بِرَفْعِ الْعُمْرَةِ ، وَقَالَ : لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ . وَرُوِيَ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ .
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، عَنْ أَنَسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ فِي إِحْرَامِهِ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ ، وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : " مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ " .
وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا : " دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " .
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثًا غَرِيبًا فَقَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيُّ ، حَدَّثَنَا غَسَّانُ الْهَرَوِيُّ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَضَمِّخٌ بِالزَّعْفَرَانِ ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ ، فَقَالَ : كَيْفَ تَأْمُرُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي عُمْرَتِي ؟ قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْعُمْرَةِ ؟ " فَقَالَ : هَا أَنَا ذَا . فَقَالَ لَهُ : " أَلْقِ عَنْكَ ثِيَابَكَ ، ثُمَّ اغْتَسِلْ ، وَاسْتَنْشِقْ مَا اسْتَطَعْتَ ، ثُمَّ مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ " هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَسِيَاقٌ عَجِيبٌ ، وَالذِي وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْجِعِرَّانَةِ فَقَالَ : كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ وَخَلُوقٌ ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ جَاءَهُ الْوَحْيُ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : " أَيْنَ السَّائِلُ ؟ " فَقَالَ : هَا أَنَا ذَا ، فَقَالَ : " أَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزَعْهَا ، وَأَمَّا الطِّيبُ الذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ، ثُمَّ مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ " . وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْغُسْلَ وَالِاسْتِنْشَاقَ وَلَا ذَكَرَ نُزُولَ الْآيَةِ ، وَهُوَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ ، لَا [ عَنْ ] صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) ذَكَرُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ سِتٍّ ، أَيْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، حِينَ حَالَ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ سُورَةَ الْفَتْحِ بِكَمَالِهَا ، وَأَنْزَلَ لَهُمْ رُخْصَةً : أَنْ يَذْبَحُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ الْهَدْيِ وَكَانَ سَبْعِينَ بَدَنَةً ، وَأَنْ يَتَحَلَّلُوا مِنْ [ ص: 533 ] إِحْرَامِهِمْ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَحْلِقُوا رُؤُوسَهُمْ وَيَتَحَلَّلُوا . فَلَمْ يَفْعَلُوا انْتِظَارًا لِلنَّسْخِ حَتَّى خَرَجَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ ، فَفَعَلَ النَّاسُ وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَّرَ رَأْسَهُ وَلَمْ يَحْلِقْهُ ، فَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ " . قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ : " وَالْمُقَصِّرِينَ " . وَقَدْ كَانُوا اشْتَرَكُوا فِي هَدْيِهِمْ ذَلِكَ ، كُلُّ سَبْعَةٍ فِي بَدَنَةٍ ، وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ ، وَكَانَ مَنْزِلُهُمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ خَارِجَ الْحَرَمِ ، وَقِيلَ : بَلْ كَانُوا عَلَى طَرَفِ الْحَرَمِ ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُخْتَصُّ الْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ ، فَلَا يَتَحَلَّلُ إِلَّا مَنْ حَصَرَهُ عَدُوٌّ ، لَا مَرَضٌ وَلَا غَيْرُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :
1.  فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِيِّ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ طَاوُسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ [ وَمُجَاهِدٍ ] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ ، فَأَمَّا مَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ وَجَعٌ أَوْ ضَلَالٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( فَإِذَا أَمِنْتُمْ ) فَلَيْسَ الْأَمْنُ حَصْرًا .
قَالَ : وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَطَاوُسٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، نَحْوُ ذَلِكَ .
2. وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْحَصْرَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِعَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ أَوْ ضَلَالٍ وَهُوَ التَّوَهَانُ عَنِ الطَّرِيقِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الصَّوَّافِ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى " .
قَالَ : فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَا : صَدَقَ .
وَأَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، بِهِ . وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ : مَنْ عَرَجَ أَوْ كُسِرَ أَوْ مَرِضَ فَذَكَرَ مَعْنَاهُ . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ الصَّوَّافِ ، بِهِ . ثُمَّ قَالَ : وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَعَلْقَمَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَعَطَاءٍ ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : الْإِحْصَارُ مِنْ عَدُوٍّ ، أَوْ مَرَضٍ ، أَوْ كَسْرٍ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : الْإِحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ آذَاهُ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَأَنَا شَاكِيَةٌ . فَقَالَ : " حُجِّي وَاشْتَرِطِي : أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي " . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِهِ . فَذَهَبَ مِنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى صِحَّةِ الِاشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ لِهَذَا الْحَدِيثِ . وَقَدْ عَلَّقَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ [ ص: 534 ] الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ : فَقَدْ صَحَّ ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ .
وَقَوْلُهُ : ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) شَاةٌ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْهَدْيُ مِنَ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ : مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ وَالضَّأْنِ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، عَنْ حَبِيبٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) قَالَ : شَاةٌ . وَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ ، وَغَيْرُهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ إِلَّا مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ .
قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ سَالِمٍ ، وَالْقَاسِمِ ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوُ ذَلِكَ .
قُلْتُ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُسْتَنَدَ هَؤُلَاءِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ قَضِيَّةُ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ ذَبَحَ فِي تَحَلِلَّهِ ذَاكَ شَاةً ، وَإِنَّمَا ذَبَحُوا الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَقَرَةٍ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) قَالَ : بِقَدْرِ يَسَارَتِهِ .
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : إِنْ كَانَ مُوسِرًا فَمِنَ الْإِبِلِ ، وَإِلَّا فَمِنَ الْبَقَرِ ، وَإِلَّا فَمِنَ الْغَنَمِ . وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ :(فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)قَالَ:إِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الرِّخَصِ وَالْغَلَاءِ 

وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ إِجْزَاءِ ذَبْحِ الشَّاةِ فِي الْإِحْصَارِ : أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ ذَبْحَ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ، أَيْ : مَهْمَا تَيَسَّرَ مِمَّا يُسَمَّى هَدْيًا ، وَالْهَدْيُ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ، كَمَا قَالَهُ الْحَبْرُ الْبَحْرُ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ وَابْنُ عَمِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : أَهْدَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً غَنَمًا .
وَقَوْلُهُ : (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) وَلَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) كَمَا زَعَمَهُ ابْنُ جَرِيرٍ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا حَصَرَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى الْحَرَمِ ، حَلَقُوا وَذَبَحُوا هَدْيَهُمْ خَارِجَ الْحَرَمِ ، فَأَمَّا فِي حَالِ الْأَمْنِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْحَرَمِ فَلَا يَجُوزُ الْحَلْقُ(حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ )[ص: 535]
وَيَفْرَغُ النَّاسِكُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، إِنْ كَانَ قَارِنًا ، أَوْ مِنْ فِعْلِ أَحَدِهِمَا إِنْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ مُتَمَتِّعًا ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَفْصَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا مِنَ الْعُمْرَةِ ، وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ ؟ فَقَالَ : " إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي ، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ " .
وَقَوْلُهُ : ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) قَالَ الْبُخَارِيُّ : حَدَّثَنَا آدَمُ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ ، قَالَ : فَعُدْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ الْكُوفَةِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ ) فَقَالَ : حُمِلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي . فَقَالَ : " مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ هَذَا ! أَمَا تَجِدُ شَاةً ؟ " قُلْتُ : لَا . قَالَ : " صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ ، وَاحْلِقْ رَأْسَكَ " . فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً ، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ ، وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي أَوْ قَالَ : حَاجِبِي فَقَالَ : " يُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ ؟ " . قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : " فَاحْلِقْهُ ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ، أَوِ انْسَكْ نَسِيكَةً " . قَالَ أَيُّوبُ : لَا أَدْرِي بِأَيَّتِهِنَّ بَدَأَ .
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ ، وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ وَقَدْ حَصَرَهُ الْمُشْرِكُونَ وَكَانَتْ لِي وَفْرَةٌ ، فَجَعَلَتِ الْهَوَامُّ تَسَاقَطُ عَلَى وَجْهِي ، فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ ؟ " فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ . قَالَ : وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) .
وَكَذَا رَوَاهُ عَفَّانُ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ ، وَهُوَ جَعْفَرُ بْنُ إِيَاسٍ ، بِهِ . وَعَنْ شُعْبَةَ ، عَنِ الْحَكَمِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، بِهِ . وَعَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ دَاوُدَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ، نَحْوَهُ .
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ .
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ، عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : أَنَّهُ [ ص: 536 ] سَمِعَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ يَقُولُ : فَذَبَحْتُ شَاةً . رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ . وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ ، سَنْدَلٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " النُّسُكُ شَاةٌ ، وَالصِّيَامُ ثَلَاثَةُ أَيَّامِ ، وَالطَّعَامُ فَرَقٌ بَيْنَ سِتَّةٍ " .
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ ، وَعِكْرِمَةَ وَإِبْرَاهِيمَ [ النَّخَعِيِّ ] وَمُجَاهِدٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَالسُّدِّيِّ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ : أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ الْجَزَرِيِّ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ : أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَآذَاهُ الْقَمْلُ فِي رَأْسِهِ ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ ، وَقَالَ : " صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ، مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ ، أَوِ انْسُكْ شَاةً ، أَيَّ ذَلِكَ فَعَلْتَ أَجْزَأَ عَنْكَ " .
وَهَكَذَا رَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) قَالَ : إِذَا كَانَ " أَوْ " فَأَيُّهَ أَخَذْتَ أَجْزَأَ عَنْكَ .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَعَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَحُمَيْدِ الْأَعْرَجِ ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَالضَّحَّاكِ ، نَحْوُ ذَلِكَ .
قُلْتُ : وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُخَيَّرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ، إِنْ شَاءَ صَامَ ، وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقُ بِفَرَقٍ ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ آصُعٍ ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ ، وَهُوَ مُدَّانِ ، وَإِنْ شَاءَ ذَبَحَ شَاةً وَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ ، أَيَّ ذَلِكَ فَعَلَ أَجْزَأَهُ . وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ الرُّخْصَةِ جَاءَ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ : ( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) وَلَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ بِذَلِكَ ، أَرْشَدَهُ إِلَى الْأَفْضَلِ ، فَالْأَفْضَلِ فَقَالَ : انْسُكْ شَاةً ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ . فَكُلٌّ حَسَنٌ فِي مَقَامِهِ . وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثْنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، حَدَّثْنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ : ذَكَرَ الْأَعْمَشُ قَالَ : سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : ( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) فَأَجَابَهُ يَقُولُ : يُحْكَمُ عَلَيْهِ طَعَامٌ ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ اشْتَرَى شَاةً ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُوِّمَتِ الشَّاةُ دَرَاهِمَ ، وَجُعِلَ مَكَانَهَا طَعَامٌ فَتَصَدَّقَ ، وَإِلَّا صَامَ بِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ : كَذَلِكَ سَمِعْتُ عَلْقَمَةَ يَذْكُرُ . قَالَ : لَمَّا قَالَ لِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : مَنْ هَذَا ؟ مَا أَظْرَفَهُ ! قَالَ : قُلْتُ : هَذَا إِبْرَاهِيمُ . فَقَالَ : مَا أَظْرَفَهُ ! كَانَ يُجَالِسُنَا . قَالَ : فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : فَلَمَّا قُلْتُ : " يُجَالِسُنَا " انْتَفَضَ مِنْهَا.[ ص: 537 ]
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عِمْرَانَ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَشْعَثَ ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ : ( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) قَالَ : إِذَا كَانَ بِالْمُحْرِمِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ ، حَلَقَ وَافْتَدَى بِأَيِّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ شَاءَ ، وَالصِّيَامُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، كُلُّ مِسْكِينٍ مَكُّوكَيْنِ : مَكُّوكًا مِنْ تَمْرٍ ، وَمَكُّوكًا مِنْ بُرٍّ ، وَالنُّسُكُ شَاةٌ .
وَقَالَ قَتَادَةُ ، عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ : ( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) قَالَ : إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ .
وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ مِنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَعَلْقَمَةَ ، وَالْحَسَنِ ، وَعِكْرِمَةَ قَوْلَانِ غَرِيبَانِ فِيهِمَا نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، [ لَا عَشْرَةَ وَ ] لَا سِتَّةَ ، أَوْ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ أَوْ نُسُكُ شَاةٍ ، وَأَنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّخْيِيرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْقُرْآنِ . وَأَمَّا هَذَا التَّرْتِيبُ فَإِنَّمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ ، كَمَا هُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ . وَعَلَيْهِ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ هُنَاكَ ، بِخِلَافِ هَذَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ هُشَيْمٌ : أَخْبَرَنَا لَيْثٌ ، عَنْ طَاوُسٍ : أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : مَا كَانَ مِنْ دَمٍ أَوْ طَعَامٍ فَبِمَكَّةَ ، وَمَا كَانَ مِنْ صِيَامٍ فَحَيْثُ شَاءَ . وَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالْحَسَنُ .
وَقَالَ هُشَيْمٌ : أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ وَعَبْدُ الْمَلِكِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَطَاءٍ : أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : مَا كَانَ مِنْ دَمٍ فَبِمَكَّةَ ، وَمَا كَانَ مِنْ طَعَامٍ وَصِيَامٍ فَحَيْثُ شَاءَ .
وَقَالَ هُشَيْمٌ : أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ خَالِدٍ ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَسْمَاءَ مَوْلَى ابْنِ جَعْفَرٍ ، قَالَ : حَجَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ، وَمَعَهُ عَلِيٌّ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ ، فَارْتَحَلَ عُثْمَانُ . قَالَ أَبُو أَسْمَاءَ : وَكُنْتُ مَعَ ابْنِ جَعْفَرٍ ، فَإِذَا نَحْنُ بَرْجَلٍ نَائِمٍ وَنَاقَتُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ ، قَالَ : فَقُلْتُ : أَيُّهَا النَّؤُومُ . فَاسْتَيْقَظَ ، فَإِذَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ . قَالَ : فَحَمَلَهُ ابْنُ جَعْفَرٍ حَتَّى أَتَيْنَا بِهِ السُّقْيَا . قَالَ : فَأَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ وَمَعَهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ . قَالَ : فَمَرَّضْنَاهُ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً . قَالَ : قَالَ عَلِيٌّ لِلْحُسَيْنِ : مَا الذِي تَجِدُ ؟ قَالَ : فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِهِ . قَالَ : فَأَمَرَ بِهِ عَلِيٌّ فَحُلِقَ رَأْسُهُ ، ثُمَّ دَعَا بِبَدَنَةٍ فَنَحَرَهَا . فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ النَّاقَةُ عَنِ الْحَلْقِ فَفِيهِ أَنَّهُ نَحَرَهَا دُونَ مَكَّةَ . وَإِنْ كَانَتْ عَنِ التَّحَلُّلِ فَوَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ : ( فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) أَيْ : إِذَا تَمَكَّنْتُمْ مِنْ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَمَتِّعًا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ، وَهُوَ يَشْمَلُ مَنْ أَحْرَمَ بِهِمَا ، أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَهَذَا هُوَ التَّمَتُّعُ الْخَاصُّ ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ . وَالتَّمَتُّعُ الْعَامُّ يَشْمَلُ الْقِسْمَيْنِ ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ ، فَإِنَّ مِنَ الرُواةِ مَنْ يَقُولُ : تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَآخَرُ يَقُولُ : قَرَنَ . وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ سَاقَ الْهَدْيَ .
وَقَالَ تَعَالَى : ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) أَيْ : فَلْيَذْبَحْ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْهَدْيِ ، وَأَقَلُّهُ شَاةٌ ، وَلَهُ أَنْ يَذْبَحَ الْبَقَرَ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبَحَ عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ،[ص: 538 ] عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبَحَ بَقَرَةً عَنْ نِسَائِهِ ، وَكُنْ مُتَمَتِّعَاتٍ . رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ .
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ التَّمَتُّعِ ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنِ قَالَ : نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا ، حَتَّى مَاتَ . قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ . قَالَ الْبُخَارِيُّ : يُقَالُ : إِنَّهُ عُمَرُ . وَهَذَا الذِي قَالَهُ الْبُخَارِيُّ قَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ أَنَّ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، كَانَ يَنْهَى النَّاسَ عَنِ التَّمَتُّعِ ، وَيَقُولُ : إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالتَّمَامِ . يَعْنِي قَوْلَهُ : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) وَفِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ يَكُنْ عُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، يَنْهَى عَنْهَا مُحَرِّمًا لَهَا ، إِنَّمَا كَانَ يَنْهَى عَنْهَا لِيَكْثُرَ قَصْدُ النَّاسِ لِلْبَيْتِ حَاجِّينَ وَمُعْتَمِرِينَ ، كَمَا قَدْ صَرَّحَ بِهِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَوْلُهُ : ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ) يَقُولُ تَعَالَى : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ، أَيْ : فِي أَيَّامِ الْمَنَاسِكِ . قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَالْأَوْلَى أَنْ يَصُومَهَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ فِي الْعَشْرِ ، قَالَهُ عَطَاءٌ . أَوْ مِنْ حِينِ يَحْرِمُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ ، لِقَوْلِهِ : ( فِي الْحَجِّ ) وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ صِيَامَهَا مَنْ أَوَّلِ شَوَّالَ ، قَالَهُ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ . وَجَوَّزَ الشَّعْبِيُّ صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ وَقَبْلَهُ يَوْمَيْنِ ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَالْحَكَمُ ، وَالْحَسَنُ ، وَحَمَّادٌ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ ، وَالرَّبِيعُ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ . وَقَالَ الْعَوْفِيُّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : إِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ الثَّالِثُ فَقَدْ تَمَّ صَوْمُهُ وَسَبْعَةٌ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ . وَكَذَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ وَبَرَةَ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : يَصُومُ يَوْمًا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ ، وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ . وَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا .
فَلَوْ لَمْ يَصُمْهَا أَوْ بَعْضَهَا قَبْلَ [ يَوْمِ ] الْعِيدِ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ ، وَهُمَا لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا ، الْقَدِيمُ مِنْهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ صِيَامُهَا لِقَوْلِ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : لَمْ يُرَخِّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلَّا لِمَنْ لَا يَجِدُ الْهَدْيَ . وَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ . وَعَنْ سَالِمٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ [ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : ( فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ ) ] . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْهُمَا . وَرَوَاهُ سُفْيَانُ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : مَنْ فَاتَهُ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ صَامَهُنَّ أَيَّامَ [ ص: 539 ] التَّشْرِيقِ . وَبِهَذَا يَقُولُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ وَعِكْرِمَةُ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ; وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : ( فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ) وَالْجَدِيدُ مِنَ الْقَوْلِيْنِ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صِيَامُهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ " .
وَقَوْلُهُ : ( وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ) فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : إِذَا رَجَعْتُمْ فِي الطَّرِيقِ . وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ رُخْصَةٌ إِذَا شَاءَ صَامَهَا فِي الطَّرِيقِ . وَكَذَا قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَوْطَانِكُمْ ; قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ سَالِمٍ ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ) قَالَ : إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَالْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ . وَحَكَى عَلَى ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الْإِجْمَاعَ .
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ عُقَيْلٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ . فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ . فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ : " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِشَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَى يَقْضِيَ حَجَّهُ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ " . وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ ، عَنْ عَائِشَةَ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ وَالْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ ، بِهِ .
وَقَوْلُهُ : ( تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ) قِيلَ : تَأْكِيدٌ ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ : رَأَيْتُ بِعَيْنِي ، وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي وَكَتَبْتُ بِيَدِي . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ) [ الْأَنْعَامِ : 38 ] وَقَالَ : ( وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) [ الْعَنْكَبُوتِ : 48 ] ، وَقَالَ : (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)[الْأَعْرَافِ : 142 ] .
وَقِيلَ : مَعْنَى ( كَامِلَةٌ ) الْأَمْرُ بِإِكْمَالِهَا وَإِتْمَامِهَا ، اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ . وَقِيلَ : مَعْنَى ( كَامِلَةٌ ) أَيْ : مُجْزِئَةٌ عَنِ الْهَدْيِ . قَالَ هُشَيْمٌ ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، فِي قَوْلِهِ : ( تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ) قَالَ : مِنَ الْهَدْيِ.[ ص: 540 ]
وَقَوْلُهُ : ( ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِقَوْلِهِ : ( لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) بَعْدَ إِجْمَاعِ جَمِيعِهِمْ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ مَعْنِيُّونَ بِهِ ، وَأَنَّهُ لَا مُتْعَةَ لَهُمْ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : عُنِيَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْحَرَمِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ .
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ : هُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ . وَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنِ الثَّوْرِيِّ ، وَزَادَ : الْجَمَاعَةُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ ، لَا مُتْعَةَ لَكُمْ ، أُحِلَّتْ لِأَهْلِ الْآفَاقِ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ، إِنَّمَا يَقْطَعُ أَحَدُكُمْ وَادِيًا أَوْ قَالَ : يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ وَادِيًا ثُمَّ يُهِلُّ بِعُمْرَةٍ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : الْمُتْعَةُ لِلنَّاسِ لَا لِأَهْلِ مَكَّةَ مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ مِنَ الْحَرَمِ . وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : ( ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) قَالَ : وَبَلَغَنِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ قَوْلِ طَاوُسٍ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوَاقِيتِ ، كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ رَجُلٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، قَالَ : مَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ الْمَوَاقِيتِ ، فَهُوَ كَأَهْلِ مَكَّةَ ، لَا يَتَمَتَّعُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ مَكْحُولٍ ، فِي قَوْلِهِ : ( ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) قَالَ : مَنْ كَانَ دُونَ الْمِيقَاتِ .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ : ( ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) قَالَ : عَرَفَةُ ، وَمَرٌّ ، وَعُرَنَةُ ، وَضَجْنَانُ ، وَالرَّجِيعُ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ : مَنْ كَانَ أَهْلُهُ عَلَى يَوْمٍ أَوْ نَحْوِهِ تَمَتَّعَ . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ . وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُ عَلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ مِنْهَا الصَّلَاةُ ; لِأَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ يُعَدُّ حَاضِرًا لَا مُسَافِرًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) أَيْ : فِيمَا أَمَرَكُمْ وَمَا نَهَاكُمْ ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَشَدِيدُ الْعِقَابِ ) أَيْ : لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ ، وَارْتَكَبَ مَا عَنْهُ زَجَرَهُ


124
(الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون ياأولي الألباب ( 197 ) )
اختلف أهل العربية في قوله : ( الحج أشهر معلومات ) فقال بعضهم : [ تقديره ] الحج حج أشهر معلومات ، فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام به فيما عداها ، وإن كان ذاك صحيحا ، والقول بصحة الإحرام بالحج في جميع السنة مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد [ ص: 541 ] بن حنبل ، وإسحاق ابن راهويه ، وبه يقول إبراهيم النخعي ، والثوري ، والليث بن سعد . واحتج لهم بقوله تعالى : ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) [ البقرة : 189 ] وبأنه أحد النسكين . فصح الإحرام به في جميع السنة كالعمرة .
وذهب الشافعي ، رحمه الله ، إلى أنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به ، وهل ينعقد عمرة ؟ فيه قولان عنه . والقول بأنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره مروي عن ابن عباس ، وجابر ، وبه يقول عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، رحمهم الله ، والدليل عليه قوله تعالى : ( الحج أشهر معلومات ) وظاهره التقدير الآخر الذي ذهب إليه النحاة ، وهو أن : وقت الحج أشهر معلومات ، فخصصه بها من بين سائر شهور السنة ، فدل على أنه لا يصح قبلها ، كميقات الصلاة .
قال الشافعي ، رحمه الله : أخبرنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، أخبرني عمر بن عطاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه قال : لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في شهور الحج ، من أجل قول الله : ( الحج أشهر معلومات ) وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن يحيى بن مالك السوسي ، عن حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج ، به . ورواه ابن مردويه في تفسيره من طريقين ، عن حجاج بن أرطاة ، عن الحكم بن عتيبة عن مقسم ، عن ابن عباس : أنه قال : من السنة ألا يحرم [ بالحج ] إلا في أشهر الحج .
وقال ابن خزيمة في صحيحه : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج ، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج . وهذا إسناد صحيح ، وقول الصحابي : " من السنة كذا " في حكم المرفوع عند الأكثرين ، ولا سيما قول ابن عباس تفسيرا للقرآن ، وهو ترجمانه .
وقد ورد فيه حديث مرفوع ، قال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن قانع حدثنا الحسن بن المثنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج " .
وإسناده لا بأس به . لكن رواه الشافعي ، والبيهقي من طرق ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل : أيهل بالحج قبل أشهر الحج ؟ فقال : لا .
وهذا الموقوف أصح وأثبت من المرفوع ، ويبقى حينئذ مذهب صحابي ، يتقوى بقول ابن عباس : " من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره " . والله أعلم .
وقوله : ( أشهر معلومات ) قال البخاري : قال ابن عمر : هي شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة . وهذا الذي علقه البخاري عنه بصيغة الجزم رواه ابن جرير موصولا حدثنا أحمد بن [ ص: 542 ] حازم بن أبي غرزة حدثنا أبو نعيم ، حدثنا ورقاء ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : ( الحج أشهر معلومات ) قال : شوال ، وذو القعدة وعشر من ذي الحجة .
إسناد صحيح ، وقد رواه الحاكم أيضا في مستدركه ، عن الأصم ، عن الحسن بن علي بن عفان ، عن عبد الله بن نمير ، عن عبيد الله عن نافع ، عن ابن عمر فذكره وقال : على شرط الشيخين .
قلت : وهو مروي عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وعبد الله بن الزبير ، وابن عباس ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي ، والحسن ، وابن سيرين ، ومكحول ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان . وهو مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأحمد بن حنبل ، وأبي يوسف ، وأبي ثور ، رحمهم الله . واختار هذا القول ابن جرير ، قال : وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب ، كما تقول العرب : " زرته العام ، ورأيته اليوم " . وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم ; قال الله تعالى : ( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) [ البقرة : 203 ] وإنما تعجل في يوم ونصف .
وقال الإمام مالك بن أنس [ والشافعي في القديم ] : هي : شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله . وهو رواية عن ابن عمر أيضا ; قال ابن جرير :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : شوال وذو القعدة وذو الحجة .
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني ابن جريج ، قال : قلت لنافع : أسمعت عبد الله بن عمر يسمي شهور الحج ؟ قال : نعم ، كان عبد الله يسمي : " شوال وذو القعدة وذو الحجة " . قال ابن جريج : وقال ذلك ابن شهاب ، وعطاء ، وجابر بن عبد الله صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا إسناد صحيح إلى ابن جريج . وقد حكي هذا أيضا عن طاوس ، ومجاهد ، وعروة بن الزبير ، والربيع بن أنس ، وقتادة . وجاء فيه حديث مرفوع ، ولكنه موضوع ، رواه الحافظ ابن مردويه ، من طريق حصين بن مخارق وهو متهم بالوضع عن يونس بن عبيد ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحج أشهر معلومات:شوال وذو القعدة وذو الحجة " 
وهذا كما رأيت لا يصح رفعه ، والله أعلم .
وفائدة مذهب مالك أنه إلى آخر ذي الحجة ، بمعنى أنه مختص بالحج ، فيكره الاعتمار في بقية [ ص: 543 ] ذي الحجة ، لا أنه يصح الحج بعد ليلة النحر .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : قال عبد الله : الحج أشهر معلومات ، ليس فيها عمرة . وهذا إسناد صحيح .
قال ابن جرير : إنما أراد من ذهب إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة أن هذه الأشهر ليست أشهر العمرة ، إنما هي للحج ، وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء أيام منى ، كما قال محمد بن سيرين : ما أحد من أهل العلم يشك في أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج .
وقال ابن عون : سألت القاسم بن محمد ، عن العمرة في أشهر الحج ، فقال : كانوا لا يرونها تامة .
قلت : وقد ثبت عن عمر وعثمان ، رضي الله عنهما ، أنهما كانا يحبان الاعتمار في غير أشهر الحج ، وينهيان عن ذلك في أشهر الحج ، والله أعلم .
وقوله : ( فمن فرض فيهن الحج ) أي : أوجب بإحرامه حجا . فيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج والمضي فيه . قال ابن جرير : أجمعوا على أن المراد من الفرض هاهنا الإيجاب والإلزام .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( فمن فرض فيهن الحج ) يقول : من أحرم بحج أو عمرة . وقال عطاء : الفرض الإحرام . وكذا قال إبراهيم ، والضحاك ، وغيرهم .
وقال ابن جريج : أخبرني عمر بن عطاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنه قال ( فمن فرض فيهن الحج ) فلا ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم بأرض . قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، وسفيان الثوري ، والزهري ، ومقاتل بن حيان نحو ذلك .
وقال طاوس ، والقاسم بن محمد : هو التلبية .
وقوله : ( فلا رفث ) أي : من أحرم بالحج أو العمرة ، فليجتنب الرفث ، وهو الجماع ، كما قال تعالى : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) [ البقرة : 187 ] ، وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك ، وكذا التكلم به بحضرة النساء .
قال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس : أن نافعا أخبره : أن عبد الله بن عمر كان يقول : الرفث إتيان النساء ، والتكلم بذلك : الرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم  

قال ابن وهب : وأخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب ، مثله .
قال ابن جرير : وحدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن رجل ، عن أبي العالية الرياحي ، عن ابن عباس : أنه كان يحدو وهو محرم وهو يقول :
وهن يمشين بنا هميسا إن يصدق الطير ننل لميسا
قال أبو العالية فقلت : تكلم بالرفث وأنت محرم ؟ ! قال : إنما الرفث ما قيل عند النساء .[ ص: 544 ]
ورواه الأعمش ، عن زياد بن حصين ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس ، فذكره .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا ابن أبي عدي ، عن عون حدثني زياد بن حصين ، حدثني أبي حصين بن قيس ، قال : أصعدت مع ابن عباس في الحاج ، وكنت خليلا له ، فلما كان بعد إحرامنا قال ابن عباس ، فأخذ بذنب بعيره فجعل يلويه و [هو] يرتجز ، ويقول :
وهن يمشين بنا هميسا إن يصدق الطير ننل لميسا
قال : فقلت : أترفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما قيل عند النساء .
وقال عبد الله بن طاوس ، عن أبيه : سألت ابن عباس عن قول الله تعالى : ( فلا رفث ولا فسوق ) قال : الرفث التعريض بذكر الجماع ، وهي العرابة في كلام العرب ، وهو أدنى الرفث .
وقال عطاء بن أبي رباح : الرفث : الجماع ، وما دونه من قول الفحش ، وكذا قال عمرو بن دينار . وقال عطاء : كانوا يكرهون العرابة ، وهو التعريض بذكر الجماع وهو محرم .
وقال طاوس : هو أن تقول للمرأة : إذا حللت أصبتك . وكذا قال أبو العالية .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الرفث : غشيان النساء والقبل والغمز ، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام ، ونحو ذلك .
وقال ابن عباس أيضا وابن عمر : الرفث : غشيان النساء . وكذا قال سعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وأبو العالية ، وعطاء ، ومكحول ، وعطاء بن يسار ، وعطية ، وإبراهيم النخعي ، والربيع ، والزهري ، والسدي ، ومالك بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، وعبد الكريم بن مالك ، والحسن ، وقتادة والضحاك ، وغيرهم .
وقوله :(ولا فسوق) قال مقسم وغير واحد ، عن ابن عباس : هي المعاصي . وكذا قال عطاء ، ومجاهد ، وطاوس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن كعب ، والحسن ، وقتادة ، وإبراهيم النخعي ، والزهري ، ومكحول ، وابن أبان ، والربيع بن أنس ، وعطاء بن يسار ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حيان .
وقال محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : الفسوق : ما أصيب من معاصي الله به صيد أو غيره . وكذا روى ابن وهب ، عن يونس ، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول : الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم .
وقال آخرون : الفسوق هاهنا السباب ، قاله ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، ومجاهد ، والسدي ، وإبراهيم والحسن . وقد يتمسك لهؤلاء بما ثبت في الصحيح " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر "[ ص: 545 ]
ولهذا رواه هاهنا الحبر أبو محمد بن أبي حاتم ، رحمه الله ، من حديث سفيان الثوري عن يزيد عن أبي وائل ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " . وروي من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ومن حديث أبي إسحاق عن محمد بن سعد عن أبيه ] .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الفسوق هاهنا : الذبح للأصنام . قال الله تعالى : ( أو فسقا أهل لغير الله به )[الأنعام : 145 ] .
وقال الضحاك : الفسوق : التنابز بالألقاب .
والذين قالوا : الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي ، معهم الصواب ، كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم ، وإن كان في جميع السنة منهيا عنه ، إلا أنه في الأشهر الحرم آكد ; ولهذا قال :(منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) [ التوبة : 36 ] ، وقال في الحرم : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) [ الحج : 25 ] .
واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا : هو ارتكاب ما نهي عنه في الإحرام ، من قتل الصيد ، وحلق الشعر ، وقلم الأظفار ، ونحو ذلك ، كما تقدم عن ابن عمر . وما ذكرناه أولى ، والله أعلم .
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " .
وقوله : ( ولا جدال في الحج ) فيه قولان :

أحدهما : ولا مجادلة في وقت الحج وفي مناسكه ، وقد بينه الله أتم بيان ووضحه أكمل إيضاح . كما قال وكيع ، عن العلاء بن عبد الكريم : سمعت مجاهدا يقول : ( ولا جدال في الحج ) قد بين الله أشهر الحج ، فليس فيه جدال بين الناس .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ولا جدال في الحج ) قال : لا شهر ينسأ ، ولا جدال في الحج ، قد تبين ، ثم ذكر كيفية ما كان المشركون يصنعون في النسيء الذي ذمهم الله به .
وقال الثوري ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن مجاهد في قوله : ( ولا جدال في الحج ) قال : قد استقام الحج ، فلا جدال فيه . وكذا قال السدي .
وقال هشيم : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : ( ولا جدال في الحج ) قال : المراء في الحج .[ ص: 546 ]
وقال عبد الله بن وهب : قال مالك : قال الله تعالى : ( ولا جدال في الحج ) فالجدال في الحج والله أعلم أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة ، وكانت العرب ، وغيرهم يقفون بعرفة ، وكانوا يتجادلون ، يقول هؤلاء : نحن أصوب . ويقول هؤلاء : نحن أصوب . فهذا فيما نرى ، والله أعلم .
وقال ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون ، كلهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم فقطعه الله حين أعلم نبيه بالمناسك .
وقال ابن وهب ، عن أبي صخر ، عن محمد بن كعب ، قال : كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء : حجنا أتم من حجكم . وقال هؤلاء : حجنا أتم من حجكم .
وقال حماد بن سلمة عن جبر بن حبيب ، عن القاسم بن محمد أنه قال : الجدال في الحج أن يقول بعضهم : الحج غدا . ويقول بعضهم : اليوم .
وقد اختار ابن جرير مضمون هذه الأقوال ، وهو قطع التنازع في مناسك الحج .
والقول الثاني : أن المراد بالجدال هاهنا : المخاصمة .
قال ابن جرير : حدثنا عبد الحميد بن بيان حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله هو ابن مسعود في قوله : ( ولا جدال في الحج ) قال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه .
وبهذا الإسناد إلى أبي إسحاق ، عن التميمي : سألت ابن عباس عن " الجدال " قال : المراء ، تماري صاحبك حتى تغضبه . وكذا روى مقسم والضحاك ، عن ابن عباس . وكذا قال أبو العالية ، وعطاء ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وجابر بن زيد ، وعطاء الخراساني ، ومكحول ، وعمرو بن دينار ، والسدي ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وإبراهيم النخعي ، وعطاء بن يسار ، والحسن ، وقتادة ، والزهري ، ومقاتل بن حيان .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس :(ولا جدال في الحج) قال الجدال : المراء والملاحاة ، حتى تغضب أخاك وصاحبك ، فنهى الله عن ذلك .
وقال إبراهيم النخعي : ( ولا جدال في الحج ) قال : كانوا يكرهون الجدال . وقال محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : الجدال : السباب والمنازعة . وكذا روى ابن وهب ، عن يونس ، عن نافع : أن ابن عمر كان يقول : الجدال في الحج : السباب ، والمراء ، والخصومات ، وقال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن الزبير ، والحسن ، وإبراهيم ، وطاوس ، ومحمد بن كعب ، قالوا : الجدال المراء .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن يحيى بن بشر عن عكرمة : ( ولا جدال في الحج ) والجدال الغضب ، أن تغضب عليك مسلما ، إلا أن تستعتب مملوكا فتغضبه من غير أن تضربه ، فلا بأس عليك ، إن شاء الله .[ ص: 547 ]
قلت : ولو ضربه لكان جائزا سائغا . والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن إدريس ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه : أن أسماء بنت أبي بكر قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجا ، حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلست عائشة إلى جنب رسول الله ، وجلست إلى جنب أبي . وكانت زمالة أبي بكر وزمالة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة مع غلام أبي بكر ، فجلس أبو بكر ينتظره إلى أن يطلع عليه ، فأطلع وليس معه بعيره ، فقال : أين بعيرك ؟ فقال : أضللته البارحة . فقال أبو بكر : بعير واحد تضله ؟ فطفق يضربه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول : " انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع ؟ " .
وهكذا أخرجه أبو داود ، وابن ماجه ، من حديث ابن إسحاق . ومن هذا الحديث حكى بعضهم عن بعض السلف أنه قال : من تمام الحج ضرب الجمال . ولكن يستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر : " انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع ؟ " كهيئة الإنكار اللطيف أن الأولى ترك ذلك ، والله أعلم .
وقد قال الإمام عبد بن حميد في مسنده : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن موسى بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قضى نسكه ، وسلم المسلمون من لسانه ويده ، غفر له ما تقدم من ذنبه " .
وقوله : ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) لما نهاهم عن إتيان القبيح قولا وفعلا حثهم على فعل الجميل ، وأخبرهم أنه عالم به ، وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة .
وقوله : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) قال العوفي ، عن ابن عباس : كان أناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة ، يقولون : نحج بيت الله ولا يطعمنا . فقال الله : تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة : قال : إن ناسا كانوا يحجون بغير زاد ، فأنزل الله : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى )
وكذا رواه ابن جرير عن عمرو وهو الفلاس عن ابن عيينة .
قال ابن أبي حاتم : وقد روى هذا الحديث ورقاء ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس . قال : وما يرويه عن ابن عيينة أصح .[ ص: 548 ]
قلت : قد رواه النسائي ، عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس [ قال ] كان ناس يحجون بغير زاد ، فأنزل الله : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) . وأما حديث ورقاء فأخرجه البخاري ، عن يحيى بن بشر ، عن شبابة . وأخرجه أبو داود ، عن أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي ، ومحمد بن عبد الله المخرمي ، عن شبابة ، عن ورقاء ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ، ويقولون : نحن المتوكلون . فأنزل الله : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) .
ورواه عبد بن حميد في تفسيره ، عن شبابة [ به ] . ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث شبابة ، به .
وروى ابن جرير وابن مردويه من حديث عمرو بن عبد الغفار [ عن محمد بن سوقة ] عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كانوا إذا أحرموا ومعهم أزوادهم رموا بها ، واستأنفوا زادا آخر ; فأنزل الله تعالى : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) فنهوا عن ذلك ، وأمروا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق . وكذا قال ابن الزبير ، وأبو العالية ، ومجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، والنخعي ، وسالم بن عبد الله ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان .
وقال سعيد بن جبير : فتزودوا الدقيق والسويق والكعك وقال وكيع [ بن الجراح ] في تفسيره : حدثنا سفيان ، عن محمد بن سوقة عن سعيد بن جبير : ( وتزودوا ) قال : الخشكنانج والسويق . وقال وكيع أيضا : حدثنا إبراهيم المكي ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : إن من كرم الرجل طيب زاده في السفر . وزاد فيه حماد بن سلمة ، عن أبي ريحانة أن ابن عمر كان يشترط على من صحبه الجوزة .
وقوله : ( فإن خير الزاد التقوى ) لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة ، وهو استصحاب التقوى إليها ، كما قال : ( وريشا ولباس التقوى ذلك خير ) [ الأعراف : 26 ] . لما ذكر اللباس الحسي نبه مرشدا إلى اللباس المعنوي ، وهو الخشوع ، والطاعة والتقوى ، وذكر أنه خير من هذا ، وأنفع .
قال عطاء الخراساني في قوله : ( فإن خير الزاد التقوى ) يعني : زاد الآخرة .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا عبدان ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا مروان بن [ ص: 549 ] معاوية ، عن إسماعيل عن قيس ، عن جرير بن عبد الله ، عن النبي ، صلى الله عليه وسلم [ قال ] : " من يتزود في الدنيا ينفعه في الآخرة " .
وقال مقاتل بن حيان : لما نزلت هذه الآية : ( وتزودوا ) قام رجل من فقراء المسلمين فقال : يا رسول الله ، ما نجد زادا نتزوده . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تزود ما تكف به وجهك عن الناس ، وخير ما تزودتم التقوى " . رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : ( واتقون يا أولي الألباب ) يقول : واتقوا عقابي ، ونكالي ، وعذابي ، لمن خالفني ولم يأتمر بأمري ، يا ذوي العقول والأفهام .
125
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِينَ ( 198 ) 

قَالَ الْبُخَارِيُّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ ، أَخْبَرَنِي ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرٍو ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ ، وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقَ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَتَأَثَّمُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي الْمَوَاسِمِ فَنَزَلَتْ : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ) فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ .
وَهَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، بِهِ .
وَلِبَعْضِهِمْ : فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ تَأَثَّمُوا أَنْ يَتَّجِرُوا ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَ مَتْجَرُ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ ، وَغَيْرُهُ ، مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانُوا يَتَّقُونَ الْبُيُوعَ وَالتِّجَارَةَ فِي الْمَوْسِمِ ، وَالْحَجِّ ، يَقُولُونَ : أَيَّامُ ذِكْرٍ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ قَالَ : " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ " .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : لَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ قَبْلَ [ ص: 550 ] الْإِحْرَامِ وَبَعْدَهُ . وَهَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ وَكِيعٌ : حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو الْحَضْرَمِيُّ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ : " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ ".[ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : عَنْ أَبِيهِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ : سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ : " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ " ] .
وَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ ، سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقْرَأُ فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً . وَهَكَذَا فَسَّرَهَا مُجَاهِدٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَمَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ ، وَقَتَادَةُ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ ، وَغَيْرُهُمْ .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ أَبِي أُمَيْمَةَ قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ وَسُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَحُجُّ وَمَعَهُ تِجَارَةٌ فَقَرَأَ ابْنُ عُمَرَ : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ )
وَهَذَا مَوْقُوفٌ ، وَهُوَ قَوِيٌّ جَيِّدٌ . وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا . قَالَ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا [ أَحْمَدُ بْنُ ] أَسْبَاطٍ ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيُّ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ التَّيْمِيِّ ، قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ : إِنَّا نُكْرِي ، فَهَلْ لَنَا مِنْ حَجٍّ ، قَالَ : أَلَيْسَ تَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ ، وَتَأْتُونَ الْمُعَرَّفَ ، وَتَرْمُونَ الْجِمَارَ ، وَتُحَلِّقُونَ رُؤُوسَكُمْ ؟ قَالَ : قُلْنَا : بَلَى . فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ الذِي سَأَلْتَنِي فَلَمْ يُجِبْهُ ، حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ) فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " أَنْتُمْ حُجَّاجٌ " .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، إِنَّا قَوْمٌ نُكْرِي ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا حَجٌّ . قَالَ : أَلَسْتُمْ تُحْرِمُونَ كَمَا يُحْرِمُونَ ، وَتَطُوفُونَ كَمَا يَطُوفُونَ ، وَتَرْمُونَ كَمَا يَرْمُونَ ؟ قَالَ : بَلَى . قَالَ : فَأَنْتَ حَاجٌّ . ثُمَّ قَالَ ابْنُ عُمَرَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَأَلَهُ عَمَّا سَأَلْتَ عَنْهُ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ) .
وَرَوَاهُ عَبْدُ [ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ ] عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ . وَهَكَذَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ [ص:551 ] حُذَيْفَةَ ، عَنِ الثَّوْرِيِّ ، مَرْفُوعًا . وَهَكَذَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ مَرْفُوعًا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ التَّيْمِيِّ ، قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ : إِنَّا أُنَاسٌ نُكْرِي فِي هَذَا الْوَجْهِ إِلَى مَكَّةَ ، وَإِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا حَجَّ لَنَا ، فَهَلْ تَرَى لَنَا حَجًّا ؟ قَالَ : أَلَسْتُمْ تُحْرِمُونَ ، وَتَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ ، وَتَقِفُونَ الْمَنَاسِكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : بَلَى . قَالَ : فَأَنْتُمْ حُجَّاجٌ . ثُمَّ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ [ مِثْلِ ] الذِي سَأَلْتَ ، فَلَمْ يَدْرِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ أَوْ قَالَ : فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ) فَدَعَا الرَّجُلَ ، فَتَلَاهَا عَلَيْهِ ، وَقَالَ : " أَنْتُمْ حُجَّاجٌ " .
وَكَذَا رَوَاهُ مَسْعُودُ بْنُ سَعْدٍ ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ ، وَشَرِيكٌ الْقَاضِي ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بِهِ مَرْفُوعًا .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي طُلَيْقُ بْنُ مُحَمَّدِ الْوَاسِطِيُّ ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو هُوَ الْفُقَيْمِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ التَّيْمِيِّ . قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ : إِنَّا قَوْمٌ نُكْرِي ، فَهَلْ لَنَا مِنْ حَجٍّ ؟ فَقَالَ : أَلْيْسَ تَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ ، وَتَأْتُونَ الْمُعَرَّفَ ، وَتَرْمُونَ الْجِمَارَ ، وَتُحَلِّقُونَ رُؤُوسَكُمْ ؟ قُلْنَا : بَلَى . قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَأَلَهُ عَنِ الذِي سَأَلْتَنِي عَنْهُ ، فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ لَهُ ، حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، بِهَذِهِ الْآيَةِ : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنْتُمْ حُجَّاجٌ " .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ ، حَدَّثَنَا مَنْدَلٌ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُهَاجِرِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى عُمَرَ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، كُنْتُمْ تَتَّجِرُونَ فِي الْحَجِّ ؟ قَالَ : وَهَلْ كَانَتْ مَعَايِشُهُمْ إِلَّا فِي الْحَجِّ ؟
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ )
إِنَّمَا صَرَفَ " عَرَفَاتٍ " وَإِنْ كَانَ عَلَمًا عَلَى مُؤَنَّثٍ ; لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ جَمْعٌ كَمُسْلِمَاتٍ وَمُؤْمِنَاتٍ ، سَمِّي بِهِ بُقْعَةٌ مُعَيَّنَةٌ ، فَرُوعِيَ فِيهِ الْأَصْلُ ، فَصُرِفَ . اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ .
وَعَرَفَةُ : مَوْضِعُ الْمَوْقِفِ فِي الْحَجِّ ، وَهِيَ عُمْدَةُ أَفْعَالِ الْحَجِّ ; وَلِهَذَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَهْلُ السُّنَنِ ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ، عَنِ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَطَاءٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ ، [ ص: 552 ] قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " الْحَجُّ عَرَفَاتٌ - ثَلَاثًا - فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ ، فَقَدْ أَدْرَكَ . وَأَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ " .
وَوَقْتُ الْوُقُوفِ مِنَ الزَّوَالِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، بَعْدَ أَنْ صَلَّى الظُّهْرَ إِلَى أَنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ ، وَقَالَ : " لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " .
وَقَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : " فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ " وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ . وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمِ عَرَفَةَ . وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَامٍ الطَّائِيِّ قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُزْدَلِفَةِ ، حِينَ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي جِئْتُ مِنْ جَبَلَيْ طَيْئٍ ، أَكْلَلْتُ رَاحِلَتِي ، وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي ، وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ إِلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ ، فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ ، وَقَضَى تَفَثَهُ " .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَهْلُ السُّنَنِ ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
ثُمَّ قِيلَ : إِنَّمَا سُمِّيَتْ عَرَفَاتٌ لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ : قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : بَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، إِلَى إِبْرَاهِيمَ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَحَجَّ بِهِ ، حَتَّى إِذَا أَتَى عَرَفَةَ قَالَ : عَرَفْتَ ، وَكَانَ قَدْ أَتَاهَا مَرَّةً قَبْلَ ذَلِكَ ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ عَرَفَةُ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ، عَنْ عَطَاءٍ ، قَالَ : إِنَّمَا سُمِّيَتْ عَرَفَةُ ، أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُرِي إِبْرَاهِيمَ الْمَنَاسِكَ ، فَيَقُولُ : عَرَفْتَ عَرَفْتَ . فَسُمِّيَ " عَرَفَاتٌ " . وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مِجْلَزٍ ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَتُسَمَّى عَرَفَاتٌ الْمَشْعَرَ الْحَلَالَ ، وَالْمَشْعَرَ الْأَقْصَى ، وَإِلَالُ عَلَى وَزْنِ هِلَالُ وَيُقَالُ لِلْجَبَلِ فِي وَسَطِهَا : جَبَلُ الرَّحْمَةِ . قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ :
وَبِالْمَشْعَرِ الْأَقْصَى إِذَا قَصَدُوا لَهُ إِلَالُ إِلَى تِلْكَ الشِّرَاجِ الْقَوَابِلِ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَنْبَسَةَ ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ ، عَنْ زَمْعَةَ هُوَ ابْنُ [ ص: 553 ] صَالِحٍ عَنْ سَلَمَةَ هُوَ ابْنُ وَهْرَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ ، كَأَنَّهَا الْعَمَائِمُ عَلَى رُؤُوسِ الرِّجَالِ ، دَفَعُوا ، فَأَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّفْعَةَ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ .
وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، مِنْ حَدِيثِ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ ، وَزَادَ : ثُمَّ وَقَفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ ، وَصَلَّى الْفَجْرَ بِغَلَسٍ ، حَتَّى إِذَا أَسْفَرَ كُلُّ شَيْءٍ وَكَانَ فِي الْوَقْتِ الْآخَرِ ، دَفَعَ . وَهَذَا حَسَنُ الْإِسْنَادِ .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ بِعَرَفَاتٍ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ . ثُمَّ قَالَ : " أَمَّا بَعْدُ وَكَانَ إِذَا خَطَبَ خُطْبَةً قَالَ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ هَذَا الْيَوْمَ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ ، أَلَا وَإِنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالْأَوْثَانِ كَانُوا يَدْفَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ ، إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ فِي رُؤُوسِ الْجِبَالِ ، كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهَا ، وَإِنَّا نَدْفَعُ بَعْدَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ مِنَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بَعْدَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ فِي رُؤُوسِ الْجِبَالِ كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهَا وَإِنَّا نَدْفَعُ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، مُخَالَفًا هَدْيُنَا هَدْيَ أَهْلِ الشِّرْكِ " .
هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَهَذَا لَفْظُهُ ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ، كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْعَيْشِيِّ ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، بِهِ . وَقَالَ الْحَاكِمُ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ . قَالَ : وَقَدْ صَحَّ وَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ سَمَاعَ الْمِسْوَرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَا كَمَا يَتَوَهَّمُهُ رِعَاعُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مِمَّنْ لَهُ رُؤْيَةٌ بِلَا سَمَاعٍ .
وَقَالَ وَكِيعٌ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ [ الزُّبَيْدِيِّ ] عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ ، قَالَ : رَأَيْتُ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، حِينَ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ رَجُلًا أَصْلَعَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ ، يُوضِعُ وَهُوَ يَقُولُ : إِنَّا وَجَدْنَا الْإِفَاضَةَ هِيَ الْإِيضَاعُ .
وَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الطَّوِيلِ ، الذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، قَالَ فِيهِ : فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا يَعْنِي بِعَرَفَةَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى : " أَيُّهَا النَّاسُ ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ " . كُلَّمَا أَتَى جَبَلًا مِنَ الْجِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ ، حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلُعَ الْفَجْرُ فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، فَدَعَا اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا ، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، أَنَّهُ سُئِلَ كَيْفَ كَانَ يَسِيرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَفَعَ ؟ [ ص: 554 ] قَالَ : " كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ " . وَالْعَنَقُ : هُوَ انْبِسَاطُ السَّيْرِ ، وَالنَّصُّ ، فَوْقَهُ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ ، فِيمَا كَتَبَ إِلِيَّ ، عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَمِّهِ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَوْلَهُ : ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) وَهِيَ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا .
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ : سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، فَسَكَتَ حَتَّى إِذَا هَبَطَتْ أَيْدِي رَوَاحِلِنَا بِالْمُزْدَلِفَةِ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ؟ هَذَا الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ قَالَ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ : الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ الْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا .
وَقَالَ هُشَيْمٌ ، عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ : ( فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) قَالَ : فَقَالَ : هُوَ الْجَبَلُ وَمَا حَوْلَهُ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، عَنِ الْمُغِيرَةِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : رَآهُمُ ابْنُ عُمَرَ يَزْدَحِمُونَ عَلَى قُزَحَ ، فَقَالَ : عَلَامَ يَزْدَحِمُ هَؤُلَاءِ ؟ كُلُّ مَا هَاهُنَا مَشْعَرٌ .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالسُّدِّيِّ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا : هُوَ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : قُلْتُ لِعَطَاءٍ : أَيْنَ الْمُزْدَلِفَةُ ؟ قَالَ : إِذَا أَفَضْتَ مِنْ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ فَذَلِكَ إِلَى مُحَسَّرٍ . قَالَ : وَلَيْسَ الْمَأْزِمَانِ مَأْزِمَا عَرَفَةَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ ، وَلَكِنْ مُفَاضَاهُمَا . قَالَ : فَقِفْ بَيْنَهُمَا إِنْ شِئْتَ ، قَالَ : وَأُحِبُّ أَنْ تَقِفَ دُونَ قُزَحَ ، هَلُمَّ إِلَيْنَا مِنْ أَجْلِ طَرِيقِ النَّاسِ . قُلْتُ : وَالْمَشَاعِرُ هِيَ الْمَعَالِمُ الظَّاهِرَةُ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْمُزْدَلِفَةُ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ ; لِأَنَّهَا دَاخِلُ الْحَرَمِ ، وَهَلِ الْوُقُوفُ بِهَا رُكْنٌ فِي الْحَجِّ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، مِنْهُمْ : الْقَفَّالُ ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ ، لِحَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ ؟ أَوْ وَاجِبٌ ، كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ يُجْبَرُ بِدَمٍ ؟ أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ كَمَا هُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ ؟ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ ، لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ غَيْرُ هَذَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .[ص: 555 ] وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ، وَارْفَعُوا عَنْ عُرَنَةَ ، وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا مُحَسَّرًا " .
هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ . وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ : " كُلُّ عَرَفَاتٍ مَوْقِفٌ ، وَارْفَعُوا عَنْ عُرَنَةَ . وَكُلُّ مُزْدَلِفَةَ مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا عَنْ مُحَسَّرٍ ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ ، وَكُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ " .
وَهَذَا أَيْضًا مُنْقَطِعٌ ، فَإِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى هَذَا وَهُوَ الْأَشْدَقُ لَمْ يُدْرِكْ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ . وَلَكِنْ رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ، وَسُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، عَنْ سُلَيْمَانَ ، فَقَالَ الْوَلِيدُ : عَنِ ابْنٍ لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ . وَقَالَ سُوَيْدٌ : عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذَكَرَهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ:(وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ) تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ ، مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْبَيَانِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى مَشَاعِرَ الْحَجِّ ، عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ; وَلِهَذَا قَالَ :( وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ) قِيلَ : مِنْ قَبْلِ هَذَا الْهَدْيِ ، وَقَبْلَ الْقُرْآنِ ، وَقَبْلَ الرَّسُولِ ، وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ ، وَمُتَلَازِمٌ ، وَصَحِيحٌ .
يأتي ان شاء الله 126

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق